زعم الدكتور أحمد
الريسوني في مقاله "حد الردة والاشكال الأصولي" أن آية :{ لا إكراه في
الدين} آية عامة غير خاصة ومحكمة غير منسوخة وأنها قاعدة كلية متناقضة مع كل
الأحاديث الواردة في حد الردة !
ويتضح بطلان كلامه من
عدة أوجه :
الوجه الأول:
أن معنى الآية اختلف فيه
على ستة أقوال :
المعنى الأول :
نفي إكراه الله تعالى العباد على الدين، فيكون
معنى الآية الإخبار أن إرادة الله القدرية ليس فيها الإكراه على الدين وممن حكى ذلك
:
1- تفسير الرازي:
( معناه أنه تعالى ما
بنى أمر الإيمان على الإجبار والقسر، وإنما بناه على التمكن والاختيار) .
2- الكشاف :
({ لا إِكْرَاهَ فِى
الدين } أي لم يجر الله أمر الإيمان على الإجبار والقسر، ولكن على التمكين
والاختيار . ونحوه قوله تعالى : { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الارض
كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ يونس
: 99 ] أي لو شاء لقسرهم على الإيمان ولكنه لم يفعل، وبنى الأمر على الاختيار).
3- تفسير البحر المحيط :
(وقال أبو مسلم، والقفال
: معناه أنه ما بنى تعالى أمر الإيمان على الإجبار والقسر، وإنما بناه على التمكن
والاختيار، ويدل على هذا المعنى أنه لما بيّن دلائل التوحيد بياناً شافياً، قال
بعد ذلك : لم يبق عذر في الكفر إلاَّ أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه، وهذا ما لا
يجوز في دار الدنيا التي هي دار الإبتلاء، إذ في القهر والإكراه على الدين بطلان
معنى الإبتلاء) .
المعنى الثاني :
أن الدين المعتبر لا يحصل بالإكراه بل لابد فيه
من شروح الصدر وانعقاد القلب وممن حكى ذلك :
1- تفسير ابن عرفة :
قوله تعالى : { لاَ
إِكْرَاهَ فِي الدين . . . } .
نقل ابن عرفة عن ابن
عطية الخلاف في سبب نزولها ثم قال : الظاهر عندي ( أنّها ) على ظاهرها ويكون خبرا
في اللفظ والمعنى . والمراد أنه ليس في الاعتقاد إكراه وهو أولى من قول من جعلها
خبرا في معنى النّهي .
2- تفسير النيسابوري :
(ثم أخبر عن عزة الدين
لأرباب اليقين بقوله { لا إكراه في الدين } كما قال صلى الله عليه وسلم : « ليس
الدين بالتمني » مع أن التمني نوع من الاختيار فكيف يحصل بالإكراه هو الإجبار، فإن
الدين هو الاستسلام لأوامر الشرع ظاهراً والتسليم لأحكام الحقِّ باطناً من غير حرج
وضيق عطن) .
3- زاد المسير :
(وقال ابن الأنباري :
معنى الآية : ليس الدين ما تدين به في الظاهر على جهة الإكراه عليه، ولم يشهد به
القلب، وتنطوي عليه الضمائر، إنما الدين هو المنعقد بالقلب) .
المعنى الثالث :
لا تنسبوا إلي الكراهة من دخل الدين تحت السيف
وممن حكى ذلك :
1- تفسير الرازي :
(لا تقولوا لمن دخل في
الدين بعد الحرب إنه دخل مكرهاً، لأنه إذا رضي بعد الحرب وصح إسلامه فليس بمكره، ومعناه
لا تنسبوهم إلى الإكراه، ونظيره قوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى
إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً }[ النساء : 94 ] ).
2- تفسير البحر المحيط :
(وقال الزجاج : لا
تنسبوا إلى الكراهة من أسلم مكرهاً، يقال : أكفره نسبه إلى الكفر . قال الشاعر :
وطائفة قد أكفروني بحبهم
... وطائفة قالوا : مسيء ومذنب).
المعنى الرابع :
أن الإيمان لا يحتاج إلى الإكراه لوضوحه وممن حكى
ذلك :
1- تفسير أبي السعود :
({ لا إِكْرَاهَ فِى
الدين } جملةٌ مستأنفة جِيء بها إثرَ بيانِ تفرُّدِه سبحانه وتعالى بالشؤون
الجليلةِ الموجبةِ للإيمان به وحده إيذاناً بأن مِنْ حق العاقلِ ألا يحتاجَ إلى
التكليف والإلزام بل يختارُ الدينَ الحقَّ من غير ترددٍ وتلعثم).
2- تفسير البيضاوي :
({ لا إِكْرَاهَ فِى
الدين } إذ الإِكراه في الحقيقة إلزام الغير فعلاً لا يرى فيه خيراً يحمله عليه، ولكن
{ قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي } تميز الإِيمان من الكفر بالآيات الواضحة، ودلت
الدلائل على أن الإِيمان رشد يوصل إلى السعادة الأبدية والكفر غي يؤدي إلى الشقاوة
السرمدية، والعاقل متى تبين له ذلك بادرت نفسه إلى الإِيمان طلباً للفوز بالسعادة
والنجاة، ولم يحتج إلى الإِكراه والإِلجاء).
المعنى الخامس :
أن الإكراه على الدين
ليس إكراها وممن حكى ذلك :
1- تفسير الألوسي :
({ لا إِكْرَاهَ فِى
الدين } ...هي جملة مستأنفة جيء بها إثر بيان دلائل التوحيد للإيذان بأنه لا يتصور
الإكراه في الدين لأنه في الحقيقة إلزام الغير فعلاً لا يرى فيه خيراً يحمله عليه
والدين خير كله، والجملة على هذا خبر باعتبار الحقيقة ونفس الأمر وأما ما يظهر
بخلافه فليس إكراهاً حقيقياً ).
المعنى السادس :
لا تكرهوا أحدا على الدخول في الدين وممن حكى ذلك
:
1- تفسير ابن كثير :
( { لا إِكْرَاهَ فِي
الدِّين } أي: لا تكرهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام فإنه بين واضح جلي
دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله
للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على
سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورًا).
الوجه الثاني :
أن الآية خاصة فيمن أعطى
الجزية وقد ورد ذلك عن بعض التفاسير منها :
1- تفسير أبي السعود :
(وقيل : خاصٌّ بأهل
الكتاب حيث حصَّنوا أنفسَهم بأداءِ الجزية ورُوي أنه كان لأنصاريَ من بني سالم بن
عوفٍ ابنان قد تنصّرا قبل مبعثه عليه السلام ثم قدِما المدينة فلزِمهما أبوهما
وقال : والله لا أدَعُكما حتى تُسلما فأَبَيا فاختصموا إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فنزلت فخلاّهما).
2- تفسير البحر المحيط :
( وقال قتادة، والضحاك :
هي محكمة خاصة في أهل الكتاب الذين يبذلون الجزية، قالا : أمر بقتال أهل الأوثان
لا يقبل منهم إلاَّ الإسلام أو السيف، ثم أمر فيمن سواهم أن يقبل الجزية . ومذهب
مالك : أن الجزية تقبل من كل كافر سوى قريش، فتكون الآية خاصة فيمن أعطى الجزية من
الناس كلهم لا يقف ذلك على أهل الكتاب) .
3- تفسير القرآن لعبد
الرزاق الصنعاني :
( - عبد الرزاق قال : نا معمر، عن قتادة، في
قوله تعالى : ( لا إكراه) قال : كانت العرب ليس لها دين، فأكرهوا على الدين بالسيف،
قال : « ولا يكره اليهودي ولا النصراني ولا المجوسي إذا أعطوا الجزية »).
الوجه الثالث :
أن الآية منسوخة وممن نقل ذلك :
1-تفسير البحر المحيط :
({ لا إكراه في الدين }
واختلف أهل العلم في هذه
الآية : أهي منسوخة؟ أم ليست بمنسوخة؟ فقيل : هي منسوخة، وهي من آيات الموادعة
التي نسختها آية السيف، ).
2- زاد المسير :
(وذهب قوم إلى أنه منسوخ،
وقالوا هذه الآية نزلت قبل الأمر بالقتال، فعلى قولهم، يكون منسوخاً بآية السيف، وهذا
مذهب الضحاك، والسدي، وابن زيد).
3- تفسير الثعالبي :
(قوله تعالى : { لا
إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي } : الدِّينُ، في هذه الآية :
هو المُعْتَقَدُ، والمِلَّة، ومقتضى قولِ زَيْدِ بن أسْلَمَ أن هذه الآية مكِّيَّة،
وأنها من آيات الموادَعَة الَّتي نسخَتْها آية السَّيْف).
4-الدر المنثور :
(وأخرج أبو داود في
ناسخه وابن جرير وابن المنذر « عن السدي في قوله { لا إكراه في الدين } قال : نزلت
في رجل من الأنصار يقال له أبو الحصين، كان له ابنان، فقدم تجار من الشام إلى
المدينة يحملون الزيت، فلما باعوا وأرادوا أن يرجعوا أتاهم ابنا أبي الحصين
فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا، فرجعا إلى الشام معهم، فأتى أبوهما رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال : إن ابني تنصرا وخرجا فاطلبهما؟ فقال: { لا إكراه في الدين }
ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب، وقال : أبعدهما الله، هما أول من كفر، فوجد أبو
الحصين في نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم حين لم يبعث في طلبهما، فنزلت: { فلا
وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم . . . } [ النساء : 65 ] الآية . ثم نسخ
بعد ذلك { لا إكراه في الدين } وأمر بقتال أهل الكتاب في سورة براءة » .
- وأخرج ابن المنذر وابن
أبي حاتم عن سليمان بن موسى في قوله: { لا إكراه في الدين } قال : نسختها { جاهد
الكفار والمنافقين } [ التوبة : 73 ]).
***
وبهذا يتضح أن الآية
مختلف في معناها ومختلف في إحكامها ومختلف في عمومها، وما كان كذلك فكيف يرد به
حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة ؟
وكيف يكون قاعدة كلية ؟
الوجه الرابع :
أن الذين يزعمون التعارض
بين قتل المرتد وآية: { لا إكراه في الدين } يريدون أن ينسخوا أحاديث قتل المرتد
الخاصة بآية "لا إكراه في الدين" العامة، وقد تقرر أن الخاص لا ينسخ
بالعام، يقول ابن رجب :
(الخاصَّ لا يُنْسَخُ
بالعامِّ، ولو كان العام متأخراً عنه في الصحيح الذي عليه جمهور العلماء ؛ لأنَّ
دلالة الخاصِّ على معناه بالنصِّ، ودلالة العام عليهِ بالظاهر عندَ الأكثرين، فلا
يُبطِلُ الظاهرُ حكمَ النص) [جامع العلوم والحكمة ص 140].
الوجه الخامس:
أن الآية عامة وأحاديث
قتل المرتد خاصة ولا تعارض بين الخاص والعام كما قال الشاطبي:
(وذلك أن التعارض إذا ظهر
لبادي الرأي في المقولات الشرعية فإما أن لا يمكن الجمع بينهما أصلا وإما أن يمكن،
فإن لم يمكن فهذا الفرض بين قطعي وظني أو بين ظنيين، فأما بين قطعيين فلا يقع في
الشريعة ولا يمكن وقوعه لأن تعارض القطعيين محال، فإن وقع بين قطعي وظني بطل الظني،
وإن وقع بين ظنيين فههنا للعلماء فيه الترجيح، والعمل بالأرجح متعين، وإن أمكن
الجمع فقد اتفق النظار على إعمال وجه الجمع، وإن كان وجه الجمع ضعيفا، فإن الجمع
أولى عندهم وإعمال الأدلة أولى من إهمال بعضها، فهؤلاء المبتدعة لم يرفعوا بهذا
الأصل رأسا إما جهلا به أوعنادا ) [الاعتصام ج 1 ص 180].
فقوله تعالى: { لا إكراه
في الدين } مخصص بأحاديث قتل المرتد، وقد تقرر أن السنة تخصص القرآن.
قال ابن القيم : ( تخصيص
القران بالسنة جائز كما أجمعت الامة على تخصيص قوله تعالى: { وأحل لكم ما وراء ذلكم
} بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها) وعموم
قوله تعالى {يوصيكم الله في أولادكم} بقوله صلى الله عليه وسلم (لا يرث المسلم
الكافر) وعموم قوله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} بقوله صلى الله عليه
وسلم (لا قطع في ثمرولاكثر) ونظائر ذلك كثيرة) [إعلام الموقعين ج2 ص 536].
والمصير إلى هذا القول
متعين لأن فيه جمعا بين الدليلين وهو أولى من إلغاء أحدهما،
قال الشنقيطي في أضواء
البيان :
(إعمال الدليلين أولى من
إلغاء أحدهما، ومعلوم أن الجمع إذا أمكن أولى من جميع الترجيحات).
وقال في المراقي :
والجمع
واجب متى ما أمكنا *** إلا فللأخير نسخ بينا
والعلماء يفرقون بين
نوعين من الإكراه كما قال شيخ الاسلام:
(والإكراه قد يكون
إكراها بحق وقد يكون إكراها بباطل . ( فالأول : كإكراه من امتنع من الواجبات على
فعلها مثل إكراه الكافر الحربي على الإسلام أو أداء الجزية عن يد وهم صاغرون
وإكراه المرتد على العود إلى الإسلام وإكراه من أسلم على إقام الصلاة وإيتاء
الزكاة وصوم رمضان وحج البيت) [مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 245)].
وقال الباجي في المنتقي
شرح المطا:
(وليس في استتابة المرتد
تخويف ولا تعطيش في قول مالك ووجه قول مالك :أن هذا إكراه بنوع من العذاب فلم يؤخذ
به في مدة الإستتابة كالضرب وقطع الأعضاء).
وتقسيم الإكراه إلى
مشروع وغير مشروع دليل على أن أهل العلم لا يرون تعارضا بين الآية وأحاديث الردة
وأن الجمع بينهما ممكن . فهل يمكن أن يكون المعاصرون أكثر فهما لكتاب الله من
الصحابة والتابعين وسائر العلماء السابقين ؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق