زعم جميل منصور في هذه
المقابلة أن عمر بن الخطاب تبرأ من الصحابة الذين أقاموا حد الردة في من ارتد وقال
لهم : (لو أتيتموني به لاستتبته ثلاثة أيام فإن لم يتب أو دعته السجن).
وفي هذا الكلام تخليط
وتلبيس حيث جمع صاحبه بين استتابة ثلاثة أيام وإيداع السجن في لفظ واحد
ليوهم السامع بأنهما متغايران والواقع أن إيداع
السجن المذكور المراد به استتابة ثلاثة أيام، وروايات الأثر المختلفة عبرت كل منها
بإحدى اللفظتين عن الأخري، ولم يرد في شيء من طرق الأثر ورواياته الجمع بين العبارتين
على نحو ما فعل جميل منصور..
وطرق الأثر ورواياته جاءت في قصتين :
القصة الأولى:
1- قال في الموطأ :
– (وحدثني مالك عن عبد
الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القارىء عن أبيه أنه قال : قدم على عمر بن
الخطاب رجل من قبل أبي موسى الأشعري فسأله عن الناس فأخبره ثم قال له عمر هل كان
فيكم من مغربة خبر فقال نعم رجل كفر بعد إسلامه قال فما فعلتم به قال قربناه
فضربنا عنقه فقال عمر أفلا حبستموه ثلاثا وأطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله
يتوب ويراجع أمر الله ثم قال عمر اللهم اني لم احضر ولم آمر ولم أرض إذ بلغني).
ورواه الشافعي في الأم
حديث 443.
2- روى ابن أبي شيبة:
عن ابن عيينة عن محمد بن
عبد الرحمن عن أبيه قال : لما قدم على عمر فتح تستر - وتستر من أرض البصرة - سألهم
: هل من مغربة، قالوا : رجل من المسلمين لحق بالمشركين فأخذناه، قال : ما صنعتم به
؟ قالوا : قتلناه، قال : أفلا أدخلتموه بيتا وأغلقتم عليه بابا وأطعمتموه كل يوم
رغيفا ثم استتبتموه ثلاثا، فإن تاب وإلا قتلتموه، ثم قال : اللهم لم أشهد ولم آمر
ولم أرض إذ بلغني - أو قال : حين بلغني.) مصنف ابن أبي شيبة - (167) في المرتد عن
الاسلام، ما عليه ؟ (ج 6 / ص 584) .
3- روى البيهقي :
عن مالك عن عبد الرحمن
بن محمد بن عبد القارى عن أبيه أنه قال قدم على عمر بن الخطاب رضى الله عنه رجل من
قبل أبي موسى فسأله عن الناس فأخبره ثم قال: هل كان فيكم من مغربة خبر؟ فقال: نعم
رجل كفر بعد إسلامه. قال: فما فعلتم به؟ قال: قربناه فضربنا عنقه. قال عمر رضى
الله عنه: فهلا حبستموه ثلاثا وأطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله أن يتوب أو
يراجع أمر الله اللهم إني لم احضر ولم آمر ولم أرض إذ بلغني) السنن الكبرى للبيهقي
- باب من قال يحبس ثلاثة أيام. (ج 8 / ص 206).
4- وروى ابن عبد البر في
التمهيد بإسناده:
عن محمد بن إسحاق عن عبد
الرحمن بن محمد بن عبدالله بن عبد القاري عن أبيه قال: قدم وفد من أهل البصرة على
عمر فأخبروه بفتح تستر فحمد الله ثم قال: هل حدث فيكم حدث ؟ فقالوا : لا والله يا
أمير المؤمنين إلا رجل ارتد عن دينه فقتلناه، قال: ويلكم أعجزتم أن تطبقوا عليه
بيتا ثلاثا ثم تلقوا له كل يوم رغيفا فإن تاب قبلتم منه وإن أقام كنتم قد أعذرتم
إليه اللهم إني لم أشهد ولم آمر ولم أرض إذ بلغني ) فتح المالك بتبويب التمهيد (ج8
ص286).
5- وروى عبد الرزاق في
المصنف :
(18695) - عن معمر قال :
أخبرني محمد بن عبد الرحمن بن عبد القاري عن أبيه قال : قدم مجزأة بن ثور- أو شقيق
بن ثور - على عمر يبشره بفتح تستر، فلم يجده في المدينة، كان غائبا في أرض له، فأتاه،
فلما دنا من الحائط الذي هو فيه كبر، فسمع عمر رضي الله عنه تكبيره فكبر، فجعل
يكبر هذا وهذا حتى التقيا، فقال عمر : ما عندك ؟ قال : أنشدك الله يا أمير
المؤمنين ! إن الله فتح علينا تستر، وهي كذا وهي كذا، وهي من أرض البصرة - وكان
يخاف أن يحولها إلى الكوفة فقال : نعم ! هي من أرض البصرة، هيه ! هل كانت مغربة تخبرناها
؟ قال : لا، إلا أن رجلا من العرب ارتد، فضربنا عنقه، قال عمر : ويحكم ! فهلا
طينتم عليه بابا، وفتحتم له كوة، فأطعمتموه كل يوم منها رغيفا، وسقيتموه كوزا من
ماء ثلاثة أيام، ثم عرضتم عليه الاسلام في اليوم الثالث، فلعله أن يراجع، ثم قال :
اللهم لم أحضر، ولم آمر، ولم أعلم).
القصة الثانية :
1- روى البيهقي :
(عن أنس بن مالك قال:
لما نزلنا على تستر - فذكر الحديث في الفتح وفي قدومه على عمر بن الخطاب رضى الله
عنه قال عمر: يا أنس ما فعل الرهط الستة من بكر بن وائل الذين ارتدوا عن الإسلام
فلحقوا بالمشركين قال فأخذت به في حديث آخر ليشغله عنهم قال ما فعل الرهط الستة
الذين ارتدوا عن الإسلام فلحقوا بالمشركين من بكر بن وائل قال يا أمير المؤمنين
قتلوا في المعركة قال إنا لله وإنا إليه راجعون قلت يا أمير المؤمنين وهل كان
سبيلهم إلا القتل قال نعم كنت أعرض عليهم أن يدخلوا في الإسلام فإن أبوا استودعتهم
السجن (وبمعناه) رواه أيضا سفيان الثوري عن داود بن أبى هند) السنن الكبرى للبيهقي
- (ج 8 / ص 207):
2-وفي مصنف عبد الرزاق :
(18696) - أخبرنا عبد
الرزاق عن الثوري عن داود عن الشعبي عن أنس رضي الله عنه قال : بعثني أبو موسى
بفتح تستر إلى عمر رضي الله عنه، فسألني عمر - وكان ستة نفر من بني بكر بن وائل قد
ارتدوا عن الاسلام ولحقوا بالمشركين - فقال : ما فعل النفر من بكر بن وائل ؟ قال :
فأخذت في حديث آخر لاشغله عنهم،
فقال : ما فعل النفر من
بكر بن وائل ؟
قلت : يا أمير المؤمنين
! قوم ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بالمشركين، ما سبيلهم إلا القتل،
فقال عمر : لان أكون أخذتهم سلما أحب إلي مما
طلعت عليه الشمس من صفراء أو بيضاء،
قال : قلت : يا أمير
المؤمنين ! وما كنت صانعا بهم لو أخذتهم ؟
قال : كنت عارضا عليهم الباب الذي خرجوا منه أن
يدخلوا فيه، فإن فعلوا ذلك قبلت منهم، وإلا استودعتهم السجن).
وكما هو واضح فقد عبرت
الروايات في السياق الأول باستتابة ثلاثة أيام في حين عبرت الروايات في السياق
الثاني بإيداع السجن وفي هذا دليل واضح على أنهما غير متغايرين وأن عمر أراد
بإيداعهم السجن استتابتهم ثلاثة أيام وقتلهم بعد انقضائها،
وقد صرح بذلك في رواية
مصنف ابن أبي شيبة :
(حدثنا ابن عيينة عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه
قال : لما قدم على عمر فتح تستر - وتستر من أرض البصرة - سألهم : هل من مغربة، قالوا
: رجل من المسلمين لحق بالمشركين فأخذناه، قال : ما صنعتم به ؟ قالوا : قتلناه، قال
: أفلا أدخلتموه بيتا وأغلقتم عليه بابا وأطعمتوه كل يوم رغيفا ثم استبتموه ثلاثا،
فإن تاب وإلا قتلتموه، ثم قال : اللهم لم أشهد ولم آمر ولم أرض إذا بلغني - أو قال
: حين بلغني.) مصنف ابن أبي شيبة - (30) ما قالوا في المرتد كم يستتاب ؟ (ج 7 / ص 599).
وهذا يدل على أنه أنكر
ترك الاستتابة ولم ينكر القتل .
والعلماء يوردون هذا الأثر للإستشهاد به في مسألة
استتابة المرتد،
ومن أمثلة ذلك :
1- ابن عبد البر :
قال في التمهيد : وقال
آخرون يستتاب شهرا، وقال آخرون يستتاب ثلاثا على ما روي عن عمر وعثمان وعلي وابن
مسعود ثم ذكر أثر محمد بن عبد الله بن عبد القاري عن أبيه أنه قال قدم على عمر ابن
الخطاب رجل من قبل أبي موسي ... الحديث .
ثم ذكر رواية أخرى لهذا الأثر مسندة من طريق
محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله القاري عن أبيه .
ثم روى عن داود ابن هند
عن الشعبي عن أنس بن مالك أن نفرا من بني بكر ابن وائل ...الحديث.
ثم قال :
(وروى أبو معاوية عن الأعمش
عن أبي عمر الشيباني أن عليا أتي بالمستورد العجلي وقد ارتد عن الإسلام فاستتابه
فأبي أن يتوب فقتله.
وروى عبادة عن العلاء
ابن أبي محمد أن عليا أخذ رجلا من بكر بن وائل تنصر بعد الإسلام فعرض عليه الإسلام
شهرا فأبى فأمر بقتله "ولا أعلم بين الصحابة خلافا في استتابة المرتد) فتح
المالك بتبويب التمهيد (ج8 ص286).
فالحديث كله كما ترى
منصب حول استتابة المرتد من بدايته إلى نهايته وفي هذا الإطار أورد ابن عبد البر
أثر عمر برواياته كلها وبسياقيه الذين ذكرناهما للتدليل على استتابة المرتد، وهذا
يدل على أنه فهم من السجن الذي ذكر عمر بن الخطاب سواء في قصة النفر الستة أو في
قصة صاحب تستر أنه السجن للإستتابة لا لإسقاط عقوبة القتل، فهذا لم يكن يخطر لهم على
بال .
وقال ابن عبد البر أيضا
في "الاستذكار" شارحا معنى قول عمر: (فإن فعلوا ذلك قبلت منهم، وإلا
استودعتهم السجن) :
"قال أبو عمر يعني
استودعتهم السجن حتى يتوبوا، فان لم يتوبوا قتلوا، هذا لا يجوز غيره لقول رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاضربوا عنقه)".
2- ابن قدامة :
ذكر ابن قدامة أثر عمر هذا في سياق الحديث عن
استتابة المرتد ثم قال بعده :
(ولو لم تجب استتابته
لما بريء من فعلهم ولأنه أمكن استصلاحه فلم يجز إتلافه قبل استصلاحه) [المغني ج 8
ص 88].
وكلام ابن قدامة هذا يدل
على أن عمر إنما أنكر عليهم قتل المرتد قبل استتابته لا أنه أنكر عليهم مجرد قتله
.
ودم المرتد إما أن يكون
معصوما أو هدرا، ولو كان معصوما لعاقبهم عمر على قتله أو دفع ديته ولم يقتصر على
مجرد البراءة من فعلهم، وهذا الانكار دليل على أنهم لم يسفكوا دما محرما وإنما
تعجلوا فقتلوه قبل الاستتابة.
كما قال في بدائع
الصنائع: (فإن قتله إنسان قبل الاستتابة يكره له ذلك ولا شيء عليه لزوال عصمته
بالردة).
وفي مصنف عبد الرزاق -
(ج 9 / ص 418).
(17850) - عبد الرزاق عن
الثوري قال : وإذا قتل المرتد قبل أن يرفعه إلى السلطان، فليس على قاتله شئ.
3- الحافظ ابن حجر:
تكلم عن خلاف العلماء في
استتابة المرتد ثم قال:
(واستدل ابن القصار لقول الجمهور بالإجماع يعني
السكوتي لأن عمر كتب في أمر المرتد: هلا حبستموه ثلاثة أيام وأطعمتموه في كل يوم
رغيفاً لعلة يتوب فيتوب الله عليه؟ قال: ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة كأنهم فهموا
من قوله صلى الله عليه وسلم : " من بدل دينه فاقتلوه " أي إن لم يرجع، ولم
ينكر ذلك أحد) [فتح الباري- باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم].
4- الباجي :
قال في المنتقي شرح
الموطأ تعليقا على هذا الأثر:
( لكن عمر رضي الله عنه
فهم منه ترك الاستتابة والمسارعة إلى قتله بنفس كفره وقد احتج أصحابنا على وجوب
استتابته بقول عمر هذا).
ولهذا قال الشافعي في
تبويب هذا الأثر : من لا يتأنى بالمرتد كما نقل ذلك البيهقي في السنن الكبرى - (ج
8 / ص 206):
(قال الشافعي في الكتاب
من قال لا يتأنى به زعم ان الحديث الذى روى عن عمر رضى الله عنه لو حبستموه ثلاثا
ليس بثابت لانه لا يعلم متصلا وان كان ثابتا كان لم يجعل على من قتله قبل ثلاث
شيئا (قال الشيخ) رحمه الله قد روى في التأني به حديث آخر عن عمر رضى الله عنه
باسناد متصل).
وهذه النقول كلها تدل على
أن عمر لم يقصد الإنكار على القتل وإنما قصد الإنكار على ترك الإستتابة.
وقد يكون وجه استنكاره
أيضا قتل المرتد دون الرجوع إليه لأن تطبيق الحدود من وظائف الإمام،
وقد ورد في مصنف ابن أبي
شيبة :
(191) الدم يقضي فيه
الأمراء :
(حدثنا أبو بكر قال
حدثنا وكيع عن مسعر عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة قال : كتب عمر إلى
امراء الاجناد أن لا تقتل نفس دوني).
قلت : والمعروف عن عمر
رضي الله عنه مسارعته إلى قتل المرتدين، ولهذا قال في قصة حاطب : دعني يا رسول الله
أضرب عنق هذا المنافق، البخاري ( 2785 )- ومسلم ( 4550 ) .
وفي رواية فقال عمر رضي
الله عنه: ( فاخترطت سيفي ثم قلت يا رسول الله أمكني من حاطب فإنه قد كفر ) قال
الهيثمي في مجمع الزوائد: ( رواه أبو يعلى فى الكبير والبزار والطبراني في الأوسط
باختصار ورجالهم رجال الصحيح ) ( 9/ 500).
وروى ابن كثير في تفسيره قال:
قال الحافظ أبو إسحاق
إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دحيم في تفسيره: حدثنا شعيب بن شعيب، حدثنا
أبو المغيرة، حدثنا عتبة بن ضمرة، حدثني أبي أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله
عليه وسلم فقضى للمحق على المبطل، فقال المقضي عليه: لا أرضى، فقال صاحبه: فما
تريد ؟ قال: أن نذهب إلى أبي بكر الصديق، فذهبا إليه، فقال الذي قضي له: قد
اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى لي، فقال أبو بكر: أنتما على ما قضى
به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى صاحبه أن يرضى، فقال: نأتي عمر بن الخطاب، فقال
المقضي له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى لي عليه، فأبى أن يرضى،
فسأله عمر بن الخطاب فقال: كذلك، فدخل عمر منزله وخرج والسيف في يده قد سله، فضرب
به رأس الذي أبى أن يرضى فقتله، فأنزل: {فلا وربك لا يؤمنون} الاَية.
وقد ذكرنا في المسألة
الأولى رواية عبد الرزاق في المصنف :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق