السبت، 16 مارس 2013

الحج إلى بيت الله الحرام





الحج إلى بيت الله الحرام كل عام واجب كفائي على أمة الإسلام ويجب على كل مسلم توفرت فيه شروط الحج أن يحج مرة في العمر وما زاد عن ذلك فهو تطوع ، وهو ركن من أركان الإسلام و نصيب المرأة المسلمة من الجهاد لحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت يا رسول الله هل على النساء جهاد؟ قال : ( نعم عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة ) . رواه أحمد وابن ماجة .
للحج شروط عامة للرجل والمرأة وهي الإسلام والعقل والحرية والبلوغ والاستطاعة المالية.
1- المحرم: وتختص المرأة باشتراط وجود المحرم الذي يسافر معها للحج وهو زوجها أو من تحرم عليه تحريماً أبدياً بنسب: كأبيها وابنها وأخيها أو بسبب مباح كأخيها من الرضاع أو زوج أمها أو ابن زوجها.
والدليل على ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب: (يقول لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر إلا مع ذي محرم ) .
فقام رجل فقال يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا فقال له صلى الله عليه وسلم : ( انطلق فحج مع امرأتك) متفق عليه .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تسافر المرأة ثلاثاً إلا مع ذو محرم ) متفق عليه.
والأحاديث في هذا كثيرة تنهى عن سفر المرأة للحج وغيره بدون محرم لأن المرأة ضعيفة يعتريها ما يعتريها من العوارض والمصاعب في السفر لا يقوم بمواجهتها إلا الرجال وهي مطمع للفساق فلا بد من محرم يصونها ويحميها.
ويشترط في المحرم الذي تصحبه المرأة في حجها :
العقل والبلوغ والإسلام فإن أيست من وجود المحرم لزمها أن تستنيب من يحج عنها.
2- وإذا كان الحج نفلاً اشترط إذن زوجها لها بالحج ، لأنه يفوت به حقه عليها، وللزوج حق في منعها من حج التطوع .
3- يصح أن تنوب المرأة عن الرجل في الحج والعمرة باتفاق العلماء كما يجوز أن تنوب عن امرأة أخرى سواء كانت بنتها أو غير بنتها .
4- إذا اعترى المرأة وهي في طريقها إلى الحج حيض أو نفاس فإنها تمضي في طريقها وتكمل حجها وتفعل ما تفعله النساء الطاهرات غير أنها لا تطوف بالبيت فإن أصابها ذلك عند الإحرام فإنها تحرم لأن عقد الإحرام لا تشترط له الطهارة .
5- وتفعل المرأة عند الإحرام كما يفعل الرجل من حيث الاغتسال والتنظيف بأخذ ما تحتاج إلى أخذه من شعر وظفر ولا بأس إذا تطيبت في بدنها مما ليس له رائحة ذكية من الأطياب لحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : ( كنا نخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنضمد جباهنا بالمسك عند الإحرام فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراها النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا ) رواه أبو داود .
6- عند نية الإحرام تخلع المرأة البرقع والنقاب إذا كانت لابسة لهما قبل الإحرام ؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تنتقب المرأة المحرمة ) رواه البخاري. وتغطي وجهها بغير النقاب والبرقع بأن تضع عليه الخمار أو الثوب عند رؤية الرجال غير المحارم لها وكذا تغطي كفيها عنهم بغير القفازين بأن تضع عليهما ثوباً لأن الوجه والكفين عورة يجب سترها عن الرجال الأجانب في حالة الإحرام وغيرهما.
7- يجوز للمرأة حال إحرامها أن تلبس ما شاءت من الملابس النسائية التي لا زينة فيها ولا مشابهة لملابس الرجال وليست ضيقة تصف حجم أعضائها ولا شفافة لا تستر ما وراءها وليست قصيرة تنحسر عن رجليها أو يديها بل تكون ضافية كثيفة واسعة.
وأجمع أهل العلم على أن للمحرمة لبس القميص والدروع والسراويلات والخمر والخفاف ولا يتعين عليها أن تلبس لوناً معيناً من الثياب كالأخضر وإنما تلبس ما شاءت من الألوان المختصة بالنساء أحمر أو أخضر أو أسود ويجوز لها استبدالها بغيرها إذا أرادت.
8- يسن للمرأة أن تلبي بعد الإحرام بقدر ما تسمع نفسها وإنما كره لها رفع الصوت مخافة الفتنة بها ولهذا لا يسن لها أذان ولا إقامة والمسنون لها في التنبيه في الصلاة التصفيق دون التسبيح.
9- يجب على المرأة في الطواف التستر الكامل وخفض الصوت وغض البصر وعدم مزاحمة الرجال وخصوصاً عند الحجر الأسود أو الركن اليماني وتطوف في أقصى المطاف لأن المزاحمة حرام لما فيها من الفتنة وأما القرب من الكعبة وتقبيل الحجر فهما سنتان مع تيسرهما ولا ترتكب محرماً لأجل تحقيق سنة. والسنة في حقها أن تشير إلى الحجر إذا حاذته من بعيد.
10- وطواف النساء وسعيهن مشي كله وأجمع أهل العلم أنه لا رمل على النساء حول البيت ولا بين الصفا والمروة وليس عليهن اضطباع.
11- أما عن ما تفعله المرأة الحائض من مناسك الحج وما لا تفعله حتى تطهر. فإن الحائض تفعل كل مناسك الحج من إحرام ووقوف بعرفة ومبيت بمزدلفة ورمي الجمار ولا تطوف بالبيت حتى تطهر يقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري. ولا تسعى المرأة الحائض بين الصفا والمروة لأن السعي لا يصح إلا بعد طواف النسك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسع إلا بعد الطواف. وقال جمهور العلماء أن الحاج لو سعى قبل الطواف لم يصح سعيه .
تنبيه : لو طافت المرأة وبعد أن انتهت من الطواف أصابها الحيض ؛ فإنها في هذه الحالة تسعى ، لأن السعي لا تشترط له الطهارة .
12- يجوز للنساء أن ينفرن مع الضعفة من مزدلفة بعد غيبوبة القمر ويرمين جمرة العقبة عند الوصول إلى منى خوفاً عليهن من الزحمة.
13- المرأة تقصر من رأسها للحج والعمرة من رؤوس شعر رأسها قدر أنملة ولا يجوز لها الحلق. والأنملة هي رأس الإصبع.
14- المرأة الحائض إذا رمت جمرة العقبة وقصرت من رأسها فإنها تحل من إحرامها ويحل لها ما كان محرماً عليها بالإحرام إلا أنها لا تحل للزوج إلا بعد طواف الإفاضة. فإن مكنته من نفسها قبل ذلك وجبت عليها الفدية وهي ذبح شاة في مكة وتوزيعها على فقراء الحرم.
15- إذا حاضت المرأة بعد طواف الإفاضة فإنها تسافر متى أرادت ويسقط عنها طواف الوداع لحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت : (حاضت صفية بنت حيي بعد ما أفاضت ، قالت : فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أحابستنا هي ؟ ، قلت : يا رسول الله إنها قد أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة قال : ( فلتنفر إذن ) متفق عليه .
وعن ابن عباس رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس بأن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض والنفساء .
خاتمة
اللهم يا حي يا قيوم وفق بناتنا وأخواتنا ونسائنا لما يرضيك عنا وعنهم واجمعنا بهم في دار الكرامة يا أرحم الراحمين .

كف بصرك عن الحرام خالد الحوفى

الحمد لله ذي الجلال والإكرام، والصلاة والسلام على محمد خير الأنام، وعلى اله وأصحابه البررة الكرام، أما بعد: أخي المسلم: اعلم أن إطلاق البصر سبب لأعظم الفتن، فكم فسد بسبب النظر من عابد، وكم انتكس بسببه من شباب وفتيات كانوا طائعين، وكم وقع بسببه أناس في الزنى والفاحشة والعياذ بالله.
 فالعين مرآة القلب، فإذا غض العبد بصره غض القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق العبد بصره أطلق القلب شهوته وإرادته، ونقش فيه صور تلك المبصرات، فيشغله ذلك عن الفكر فيما ينفعه في الدار الآخرة. ولما كان إطلاق البصر سببا لوقوع الهوى في القلب أمر الشارع بغض البصر عما يخاف عواقبه، فقال تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ* وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ.. } سورة النور:30-31.
 النظر وخطورته :
قال الإمام ابن القيم: أمر الله تعالى نبيه أن يأمر المؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم، وأن يعلمهم أنه مشاهد لأعمالهم مطلع عليها: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (19) سورة غافر، ولما كان مبدأ ذلك من قبل البصر جعل الأمر بغضِه مقدما على حفظ الفرج، فإن كل الحوادث مبدؤها من النظر، كما أن معظم النار من مستصغر الشرر، تكون نظرة.. ثم خطرة.. ثم خطوة.. ثم خطيئة، ولهذا قيل: من حفظ هذه ا لأربعة أحرز دينه: اللحظات، والخطرات، واللفظات، والخطوات.
قال: والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان، فإن النظرة تولد الخطرة، ثم تولد الخطرة فكرة، ثم تولد الفكرة شهوة، ثم تولد الشهوة إرادة، ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة، فيقع الفعل ولابد ما لم يمنع مانع، ولهذا قيل: الصبر على غض البصر أيسر من الصبر على ألم ما بعده.
كـل الحوادث مبدأها من النظر *** ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها *** فتك الســهام بلا قوس ولا وتر
والعبــد ما دام ذا عين يقلبها *** في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسـر مقلته ما ضـر مهجـته *** لا مـرحبا بسرور عاد بالضـرر
 أحاديث وآثار في فتنة النظر :
 1- قال النبي صلى الله عليه وسلم (( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء )) متفق عليه.
2- وقال صلى الله عليه وسلم  : ((.. فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء )) رواه مسلم.
3- وعن جرير بن عبدالله قال: سألت رسول الله صلى عليه وسلم عن نظرة الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري، رواه مسلم. وعند أبي داود أنه قال له. (( اصرف بصرك )).
4- وقال عليه الصلاة والسلام. (( يا علي، لا تتبع النظرة النظرة؟ فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة )) رواه الترمذي وأبو داود وحسنه الألباني.
 5- وقال صلى الله عليه وسلم(( العينان تزنيان، وزناهما النظر )) متفق عليه.
 أخي الحبيب: وكان السلف الصالح يبالغون في غض البصر؟ حذر من فتنته، وخوفا من الوقوع في عقوبته. قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ما كان من نظرة فان للشيطان فيها مطمعا)، وكان الربيع بن خثيم رحمه الله يغض بصره، فمر به نسوة، فأطرق - أي أمال رأسه إلى صدره - حتى ظن النسوة أنه أعمى، فتعوذن بالله من العمى!!
 قال ابن عباس رضي الله عنهما: الشيطان من الرجل في ثلاثة منازل: في بصره، وقلبه، وذكره، وهو من المرأة في ثلاثة منازل: في بصرها، وقلبها، وعجزها.
قال في قوله تعالى: : {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (19) سورة غافر، قال: الرجل يكون في القوم فتمر بهم المرأة، فيريهم أنه يغض بصره عنها، فإن رأى منهم غفلة نظر إليها، فإن خاف أن يفطنوا إليه غض بصره، وقد اطلع الله عز وجل من قلبه أنه يود لو نظر إلى عورتها!!
وقال عيسى ابن مريم: النظر يزرع في القلب الشهوة، وكفى بها خطيئة. وقال معروف: غضوا أبصاركم ولو عن شاة أنثى!! وقال ذو النون: اللحظات تورث الحسرات؟ أولها أسف، وآخرها تلف، فمن طاوع طرفه تابع حتفه.
وخرج حسان بن أبي سنان يوم عيد، فلما عاد قالت له امرأته: كم من امرأة حسناء قد رأيت؟ فقال: والله ما نظرت إلا في إبهامي منذ خرجت من عندك إلى أن رجعت إليك! وقال أحمد بن حنبل: كم نظرة ألقت في قلب صاحبها البلابل!!
يا من رأى سـقمي يزيد *** وعـلتي تـعي طبيـبي لا تعجبن فهكـــذا *** تجني العيون على القلوب
حكم النظر للنساء
قال الحافظ أبو بكر بن حبيب العامري: إن الذي أجمعت عليه الأمة، واتفق على تحريمه علماء السلف والخلف من الفقهاء والأئمة؟ هو نظر الأجانب من الرجال والنساء بعضهم إلى بعض - وهم من ليس بينهم رحم من النسب، ولا محرم من سبب كالرضاع وغيره - فهؤلاء حرام نظر بعضهم إلى بعض... فالنظر والخلوة محرم على هؤلاء عند كافة المسلمين. ( ولما نظر الفضل بن عباس إلى امرأة حول النبي وجهه إلى الشق الآخر ) رواه أبو داود.
قال ابن القيم: وهذا منع وإنكار بالفعل، فلو كان النظر جائزا لأقره عليه.
سد الذرائع إلى النظر
 أخي الحبيب: سد النبي صلى الله عليه وسلم كل ذريعة تفضي إلى تعمد النظر إلى النساء؟ حرصا منه على سلامة القلوب ونقاء النفوس واستقامة المجتمع المسلم على تقوى الله ومخافته.
 و من ذلك:
 1- أنه نهى النساء إذا صلين مع الرجال أن يرفعن رءوسهن قبل الرجال؟ لئلا يكون ذريعة منهن إلى رؤية عورات الرجال من وراء الأزر.
 2- أنه نهى المرأة إذا خرجت إلى المسجد أن تتطيب أو أن تصيب بخورا، وذلك لأنه ذريعة إلى ميل الرجال وتشوقهم إليها، فإن رائحتها وزينتها وصورتها وإبداء محاسنها تدعو إليها، فأمرها أن تخرج تفلة ولا تتطيب.
 3- أنه لم يجعل لها وسط الطريق عند المشي حتى لا يراها كل أحد، بل جعل لها حافات الطريق وجوانبه.
 4- أنه نهى أن تنعت المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها، سداً للذريعة، وحماية عن مفسدة وقوعها في قلبه وميله إليها بحضور صورتها في نفسه.
5- أنه نهى عن الجلوس في الطرقات، وما ذاك إلا لأنه ذريعة إلى النظر المحرم، فلما أخبروه أنه لابد لهم من ذلك قال صلى الله عليه وسلم (( أعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حقه؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام )) متفق عليه.
6- أن الله سبحانه نهى النساء عن الضرب بأرجلهن عند السير سداً لذريعة النظر، حتى لا ينظر الرجال إلى ما يخفين من الزينة والجمال، قال سبحانه:{ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ } (31) سورة النــور .
عقوبات النظر إلى المحرمات أخي المسلم:
اعلم أن النظر إلى المحرمات يورث الحسرات والزفرات، والألم الشديد، فيرى العبد ما ليس قادراً عليه ولا صابراً عنه، وهذا من أعظم العذاب كما قيل:
يا راميا بسـهام اللحظ مجتهدا *** أنت القتيل بما ترمي فـلا تصب
وباعث الطرف يرتاد الشفاء له *** احبس رسولك لا يأتيك بالعطب
فمن عقوبات النظر إلى المحرمات:
1- فساد القلب: فالنظرة تفعل في القلب ما يفعل السهم في الرمية، فإن لم تقتله جرحته، فهي بمنزلة الشرارة من النار ترمى في الحشيش اليابس، فإن لم تحرقه كله أحرقت بعضه.
2- نسيان العلم: فقد نسي أحد العباد القرآن بسبب نظرة إلى غلام نصراني!!
3- نزول البلاء: قال عمرو بن مرة: نظرت إلى امرأة فأعجبتني فكف بصري، فأرجو أن يكون ذلك جزائي.
 4- إبطال الطاعات: فعن حذيفة قال: من تأمل خلق امرأة من وراء الثياب فقد أبطل صومه!!
 5- الغفلة عن الله والدار الآخرة: فإن القلب إذا شغل بالمحرمات أورثه ذلك كسلا عن ذكر الله وملازمة الطاعات. 6- إهدار الشارع عين من تعمد النظر في بيوت الناس متجسساً: فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( لَوْ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْكَ مِنْ جُنَاحٍ)) متفق عليه.
فوائد غض البصر
أخي المسلم: وفي غض البصر فوائد عديدة ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله منها عشر فوائد وهي:
1- تخليص القلب من ألم الحسرة، فإن من أطلق نظره دامت حسرته.
 2- أنه يورث القلب نورا وإشراقا يظهر في العين وفي الوجه وفي الجوارح، كما أن إطلاق البصر يورثه ظلمة تظهر في وجهه وجوارحه.
 3- أنه يورث صحة الفراسة، فإنها من النور وثمراته، قال شجاع الكرماني: من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشهوات، وأكل من الحلال- لم تخطئ فراسته.
 4- أنه يفتح له طرق العلم وأبوابه، ويسهل عليه أسبابه, وذلك بسبب نور القلب، فإنه إذا استنار ظهرت فيه حقائق المعلومات، ومن أرسل بصره تكدر عليه قلبه وأظلم.
شكوت إلى وكيــع سوء *** حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العـلم نـور *** ونــور الله لا يهـدي العاصي
 5- أنه يورث قوة القلب وثباته وشجاعته، قال بعض الشيوخ: الناس يطلبون العز بأبواب الملوك، ولا يجدونه إلا في طاعة الله.
 6- أنه يورث القلب سرورا وفرحة وانشراحا أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر، فلذة العفة أعظم من لذة الذنب.
7- أنه يخلص القلب من أسر الشهوة، فإن الأسير هو أسير شهوته وهواه، ومتى أسرت الشهوة والهوى القلب تمكن منه عدوه، وسامه سوء العذاب وصار:
كعصفورة في كف طفل يسومها *** حياض الردى والطفل يلهو ويلعب
 8- أنه يسد عن العبد باباً من أبواب جهنم، فإن النظر باب الشهوة الحاملة على مواقعة الفاحشة، فمتى غض بصره سلم من الوقوع في الفاحشة، ومتى أطلقه كان هلاكه أقرب.
 9- أنه يقوي العقل ويزيده ويثبته، فإن إطلاق البصر وإرساله لا يحصل إلا من خفة العقل وطيشه وعدم ملاحظته للعواقب كما قيل:
وأعقل الناس من لم يرتكب سببا *** حتى يفكر ما تجني عواقبه
 10- أنه يخلص القلب من ذكر الشهوة ورقدة الغفلة، فإن إطلاق البصر يوجب استحكام الغفلة عن الله والدار والآخرة، ويوقع في سكرة العشق. ويزاد على ما ذكره ابن القيم..
11- أنه يورث محبة الله، قال الحسن بن مجاهد: غض البصر عن محارم الله يورث حب الله.
 12- أنه يورث الحكمة، قال أبو الحسين الوراق: من غض بصره عن محرم أورثه الله بذلك حكمة على لسانه، يهدى بها سامعوه.
 13- أنه يفرغ القلب للتفكر في مصالحه والاشتغال بما ينجيه يوم القيامة.
جاهد نفسك لحظة!!
 قال ابن الجوزي: فتفهم يا أخي ما أوصيك به، إنما بصرك نعمة من الله عليك، فلا تعصه بنعمه، وعامله بغضه عن الحرام تربح، واحذر أن تكون العقوبة سلب تلك النعمة، وكل زمن الجهاد في الغض لحظة، فإن فعلت نلت الخير الجزيل، وسلمت من الشر الطويل. التوبة والنظر قال أبو بكر المروزي : قلت لأبي عبدالله أحمد بن حنبل: رجل تاب وقال: لو ضرب ظهري بالسياط ما دخلت في معصية الله، إلا أنه لا يدع النظر؟! فقال: أي توبة هذه! قال جرير:  سألت رسول الله عن نظرة الفجاءة، فقال: ((اصرف بصرك )) رواه مسلم وأبو داود.
أسباب إطلاق البصر
 أخي المسلم: إن إطلاق البصر له أسباب كثيرة جداً يصعب حصرها، ومن أهمها:
 1- اتباع الهوى وطاعة الشيطان.
2- الجهل بعواقب النظر، وأنه يؤدي إلى الزنى، وربما أدى إلى الردة عن الإسلام، فقد ورد أن رجلا نظر إلى نصرانية فعشقها، فلم ترض منه إلا بالبراءة من الإسلام، فارتد ودخل في النصرانية!!
 3- الاتكال على عفو الله ومغفرته، ونسيان أن الله شديد العقاب.
4- مشاهدة الأفلام والمسلسلات والبرامج والصور الفاتنة التي تتبرج فيها النساء عن طريق القنوات الفضائية أو المجلات الخليعة.
5- العزوف عن الزواج، فقد قال صلى الله عليه وسلم (( يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؟ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج...)) متفق عليه.
 6- كثرة التواجد في الأماكن التي يختلط فيها الرجال بالنساء كالأسواق مثلا. قال العلاء بن زياد: لا تتبع بصرك رداء امرأة، فإن النظرة تجعل في القلب شهوة.
 7- وجود لذة كاذبة يشعر بها الناظر في نفسه، وهي أثر من آثار الغفلة عن الله وقلة تعظيمه في القلب، إذ لو كان معظما لله عز وجل لما فرح بمعصيته.
 8- تبرج النساء في الشوارع والأسواق، وتعمد بعضهن إظهار الجمال والزينة، مما يدعو ضعاف النفوس إلى النظر إليهن.
 9- تشجيع بعض النساء لذلك بتعمد نظرهن إلى الرجال، فيجرئنهم على مبادلتهن النظرات.
10- كثرة التعامل مع النساء سواء أكان في بيع أو شراء أو عمل أو غيره.
 أسباب غض البصر
أخي الكريم: ولغض البصر أسباب كثيرة كذلك نذكر منها:
 1- تقوى الله عز وجل والخوف من عقابه.
 2- التخلص من جميع الأسباب التي ذكرنا أنها تؤدي إلى إطلاق البصر.
 3- معرفة أن إطلاق البصر يؤدي إلى الأسف والحسرة، قال الحسن: من أطلق طرفه طال أسفه.
 4- معرفة أن النظر زنا العينين، ويكفيه في ذلك قبحا.
5- دفع الخواطر والوساوس قبل أن تصير عزما ثم تنتقل إلى مرحلة الفعل، فمن غض بصره عند أول نظرة سلم من آفات لا تحصى، فإذا كرر النظر فلا يأمن أن يزرع في قلبه زرع يصعب قلعه.
 6- القيام بحقيقة الشكر، فإن من تمام شكر النعمة ألا يعصى الله عز وجل بها. والبصر من نعم الله تعالى على العبد. 7- الصوم؟ وهو سبب قوي في غض البصر بعد الزواج.
 8- تأمل ما يستقبح من شأن النساء، فإنهن يتفلن ويبلن ويتغوطن وتصيبهن الروائح الكريهة، وفي ذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إذا أعجبت أحدكم امرأة فليذكر مناتنها!!).
لو فكر العاشق في منتهى *** حسن الذي يسبيه لم يسبه!
 9- التسلي بما أحله الله عز وجل من الشهوة المباحة، فعن جابر أن رسول الله رأى امرأة فأعجبته، فأتى زينب فقضى منها حاجته وقال: " إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه " رواه مسلم. قال النووي: معنى الحديث أن المرأة تذكر بالهوى والفتنة والشهوة لما جعل الله تعالى في نفوس الرجال من الميل إليهن والالتذاذ بالنظر إليهن، ولذا فإنه ينبغي لها ألا تخرج بين الرجال إلا لضرورة، وكذا فإنه ينبغي للرجل الغض عنها وعن ثيابها، والإعراض عنها مطلقا" شرح صحيح مسلم للنووي،.
 10- الدعاء والاستعانة بالله عز وجل وسؤاله النجاة من هذه الفتنة، فقد كان يقول صلى الله عليه وسلم  " اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي، ومن شر بصري، ومن شر لساني، ومن شر قلبي " رواه أبو داود وصححه.الألباني.
 11- الخوف من سوء الخاتمة والتأسف عند الموت.
 12- صحبة الأخيار وترك صحبة الأشرار، فإن الطبع يسرق من خصال المخالطين، والمرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الجنة أو النـار

الجنة هي مقر المتقين الأبرار، والنار مقر المجرمين الكفار، فهما المقران الأخيران لكلا الفريقين، ولا شك في وجودهما الآن، وأنهما لا تفنيان أبداً، والأدلة على أن الجنة مقر المتقين الأبرار، وأن النار مقر المجرمين الكفار قول الرب العزيز الغفار: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ إلى قوله تعالى تجري من تحتها الأنهار}1.
 
وقال تعالى: {فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}2 .
وقال تعالى: {وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}3 .
 
وآيات القرآن كثيرة شهيرة في ذلك، فإن الله كلما يذكر الجنة عطف عليها بذكر النار، وكلما يذكر أهل النار عطف عليهم بذكر أهل الجنة، فتارة يعد ويتوعد، وتارة يخبر بما أعدّ في الجنة من النعيم المقيم لأوليائه، ويخبر عما أرصد في النار من العذاب الأليم لأعدائه وغير ذلك، فمن رام استقصاءه فليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته بتدبر وقلب شهيد والله الموفق4.  
 
وعن عبادة بن الصامت  - رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: " من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبدالله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه والجنة حق والنار حق أدخله الجنة على ما كان من العمل"5 .
وقال تعالى في إثبات وجود الجنة الآن:{وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}6.
 وقال تعالى:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}7. وقال تعالى: {عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى}8 .
 
وغيرها من الآيات التي تخبر على أن الجنة معدة قد أوجدت، وأنها مدخرة لأولياء الله، وأنها في السماء، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم – رآها ليلة المعراج.
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء"9.
وعن أسامة بن زيد- رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " قمت على باب الجنة ، فإذا عامة من دخلها المساكين ، وإذا أصحاب الجد محبوسون ؛ إلا أصحاب النار ؛ فقد أمر بهم إلى النار ، وقمت على باب النار ، فإذا عامة من دخلها النساء "10.
 
وقال تعالى في النار: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}11.
 وقال تعالى:{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}12. وقال تعالى:{بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} 13. وقال تعالى:{إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا}14.
 فهي معدة لأعداء الله من اليهود والنصارى وغيهم من الكفار، ومن دخلها من عصاة هذه الأمة.
وعن ابن عمر- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا مات أحدكم فإنه يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي، فإن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار" 15.
 
وعن عمران بن حصين عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء"16 .
وقال تعالى في إثبات دوامهما وبقائهما، وأنهما لا تفنيان ولا يفنى من فيهما: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}17. وقال تعالى: و{لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ}18.
وقال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} 19. وقال تعالى: {لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ}20.
 وذلك في إثبات ما يُقاد الجنة وعدم فنائها وفناء من دخلها، وعدم خروجه أيضاً منها:
وقال في النار: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا}21.
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} 22.
 وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالدينَ فيها أبداً لا يجدون ولياً ولا نصيراً}23.
وقال تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ}24 .
وقال تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ}25.
وقال تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيى}26 .
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا}27 . وغيرها من الآيات..
 
وعن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار، جيء بملك الموت حتى يجعل بين الجنة والنار ثم يذبح ثم ينادي منادٍ يا أهل الجنة لا موت ويا أهل النار لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم " 28.
وقال حافظ حكمي – رحمه الله - ملخصاً لهذه المسائل:
 
والنار والجنة حق وهما
***
موجودتان لا فناء لهما
                                        
وقال ابن القيم – رحمه الله -: لم يزل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وتابعوهم، وأهل السنة والحديث قاطبة، وفقهاء الإسلام وأهل التصوف والزهد على اعتقاد ذلك، وإثباته مستندين في ذلك إلى نصوص الكتاب والسنة وما علم بالضرورة من أخبار الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم، فإنهم دعوا الأمم إليها، وأخبروا بها إلى أن نبعث نابغة من القدرية والمعتزلة فأنكرت أن تكون مخلوقة الآن 29.
وفي الجنة ما لا عين رأيت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}30.
 
 وفيها الحور الحسان، والخدم والغلمان، وأنواع المآكل والمشارب والمراكب، والجوهر. ولكنها فيها أفضل لذة على الإطلاق هي النظر إلى وجه الله الكريم- اسأل الله أن يرزقنا ذلك- حيث قال ابن القيم : الباب الخامس والستون: في رؤيتهم ربهم - تبارك وتعالى – بأبصارهم جهرة كما يرى القمر ليلة البدر، وتجليه لهم ضاحكاً إليهم. فهذا الباب أشرف أبواب الكتاب، وأجلها قدراً، وأعلاها خطراً، وأقرها لعيون أهل السنة والجماعة، وأشدها على أهل البدعة والضلالة، وهي الغاية التي تمر إليها المستمرون، وتنافس فيها المتنافسون، وتسابق إليها المتسابقون، ولمثلها فليعمل العاملون، إذا ناله أهل الجنة نسوا ما هم فيه من النعيم، وحرمانه والحجاب عنه لأهل الجحيم أشد عليهم من العذاب الجحيم. اتفق عليها الأنبياء والمرسلون، وجميع الصحابة والتابعون، وأئمة الإسلام على تتابع القرون.
 
وأنكرها أهل البدع المارقون، والجهمية المهتوكون، والفرعونية المعطلون، والباطنية الذين هم من جميع الأديان منسلخون، ومن حبل الله منقطعون، وعلى مسبة أصحاب رسول الله عاكفون، وللسنة وأهلها محاربون، ولكل عدو لله ورسوله ودينه مسالمون، وكل هؤلاء عن ربهم محجوبون، وعن بابه مطرودون، أولئك أحزاب الضلال وأعداء الرسول وحزبه، وقد أخبر الله – سبحانه-  عن أعلم الخلق به في زمانه، وهو كليمه ونجيه وصفيه من أهل الأرض، إنه سأل ربه - تعالى - النظر إليه، فقال له ربه - تبارك وتعالى -: {وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}31. ثم سرد كعادته في سرد وجوه الاستدلال من الآيات والأحاديث، ثم أردف بعد ذلك بذكر باب في تكليمه - سبحانه وتعالى - لأهل الجنة، وخطابه لهم، ومحاضرته إياهم وسلامه عليهم32.
 وقد لخص حافظ حكمي هذه المسألة في منظومة سلم الوصول إلى علم الأصول فقال:
 
وأنه يــرى بلا إنـكار  
 في جنـة الفـردوس بالأبصـار
 كل يراه رؤيـة العيـان  
كمـا أتى في محـكم القـرآن
وفي حديث سيـد الأنـام  
 من غـير ما شـك ولا إيهـام
رؤية حق ليس يمتــرونها  
كالشمس صحواً لا سحاب دونها
وخص بالرؤية أوليــاؤه  
فضيـلة وحجبـوا أعــداؤه

 والحمد الله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وأله وصحبه وسلم.
 

 

1 - التحريم (6-7- 8 ).
2 - البقرة (24 – 25).
3 - آل عمران (131- 133).
4- انظر معارج القبول( 2/858).
5 - رواه البخاري ومسلم.
6 - آل عمران ( 133).
7 - الحديد (21)
8 - النجم (14- 15).
9 - رواه البخاري ومسلم.
10 - رواه البخاري ومسلم.
11 - التغابن ( 9).
12- البقرة (.2).
13- الفرقان ( 11)
14- النبأ (21 ).
15 -  رواه البخاري ومسلم.
16 - رواه البخاري ومسلم.
17 -  التوبة (100).
18 -  الحجر (48 ).
19 - هود ( 108).
20-  الواقعة (33) .
21 - النساء (168- 169)
22 - النساء (57).
23 - الأحزاب (64-65).
24 - المائدة (37).
25 - فاطر( 36- 37).
26- الأعلى ( 11- 13-12).
27 - النساء (56).
28 - رواه البخاري ومسلم.
29 - حادي الأرواح ص37. ط: دار كاتب وكتاب - بيروت، تحقيق د/ السيد الجميلي
30 - السجدة (17).
31 - الأعراف (143)
32- للاستزادة انظر حادي الأرواح ص 326- 380 فهو كتاب جامع نافع في الحديث عن الجنة وما فيها من النعيم المقيم، والنظر إلى وجه الله الكريم.
وأما الكتاب الذي أحيلك عليه في ذكر النار والتخويف منها ومن سلوك طريقها، وذكر ما يتجرعه أهلها من الغصص والحرمان، فهو كتاب: التخويف من النار للحافظ ابن رجب الحنبلي، فرجعهما تجد فيهما بغيتك ومقصو دك، والله يعصمنا وإياك من الخطاء الزلل، ويجنبنا طريق أهل الزيغ والأهواء والنحل .

التيسير في الحج

  الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
انطلاقاً من أهمية فريضة الحج كونها الركن الخامس من أركان الإسلام الخمسة, وامتثالاً لقوله - تعالى -: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ},1 واستجابة لتوجيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: ((يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)), ونظراً لما يحدث أثناء أداء هذا الركن من الازدحام الشديد، وتدافع الناس عند بعض المشاعر، فإنه لا يخفى أهمية مراعاة قاعدة "التيسير في الحج" ما دامت الحالة هذه، فإنها القاعدة في أعمال الحج، كما أنها قائمة على العمل بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله ((لتأخذوا مناسككم))2، وهي قائمة أيضاً على رفع الحرج كما في قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((افعل ولا حرج))3.
المراد بالتيسير:
اليسر أو التيسير أمر نسبي، فقد يطلق على ما هو في حدود طاقة الإنسان وإن كان فيه حرج وعنت، وقد يطلق على ما هو في وسع الإنسان بحيث يتمكن من امتثال التكليف دون حرج أو عنت، والذي يظهر من النظر في الرخصة الشرعية بل وفي كل التكاليف أن المراد بالتيسير في الشريعة - غالباً - هو: كون الأمر بحيث يمكن امتثاله دون حرج أو مشقة.4
ثبوت التيسير في الشريعة:
دين الإسلام مبني على اليسر كما قال جل ذكره: {يرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}5، وقال سبحانه أيضاً: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حرج}6، وهذا ما كان معروفاً من هديه - صلى الله عليه وسلم - ووصيته المتكررة لأصحابه حيث يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((يسروا ولا تعسروا، وبشـروا ولا تنفروا))7، وقال - عليه الصلاة والسلام -: ((إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسـددوا وقاربوا))8، وقال - صلى الله عليه وسلم - أيضاً: ((إن الله يحب الرفق في الأمر كله، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف))9.
وهذه الأدلة الكثيرة وغيرها تؤكد أن التيسير في الشريعة ليست رخصة بل هي الأصل، ولذلك كان من هدى النبي - صلى الله عليه وسلم - التزامه في حياته كلها، ولا يترك التيسير إلا إذا كان الأخذ به يؤدي إلى خلاف الشرع فقد جاء عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "ما خيّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً"10قال ابن عبد البر: فيه دليل على فضل التيسير في أمور الديانة، وأن ما يشق منها مكروه قال الله - تعالى -: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}11، ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما خير بين أمرين إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثماً"12.
وأثبت الله لعباده تخفيفات كثيرة في المواطن التي يخشى من حصول المشقة فيها مثل: السفر، والمرض، والخوف ونحوها، يشرع الأخذ بها حتى لو لم تحصل مشقة حقيقية، فالجمع والقصر مشروعان في السفر بكل حال، وصلاة الخوف تصلى بحسب ما تيسر إن أمكنت جماعة، وإلا صلى كل واحد على حسب حاله حتى ولو إلى غير جهة القبلة.13
ومنهج التيسير سار عليه الصحابة أيضاً اقتداء بالقدوة والأسوة نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - يقول عمر بن إسحاق: "لمَنْ أدركت من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر لمن سبقني منهم، فما رأيت قوماً أيسر سيرة، ولا أقل تشدداً منهم"، وقال رجاء بن أبي سلمة: "سمعت عبادة بن نسي الكندي وسئل عن المرأة ماتت مع قوم ليس لها ولي، فقال: أدركت أقواماً ما كانوا يشددون تشديدكم، ولا يسألون مسائلكم"14.
والقاعدة الكبرى في الباب تنص على أن "المشقة تجلب التيسير"، فهل مشقة الحج المعاصر تجلب التيسير في فقهنا المعاصر؟ هذا ما سنطرقه في طيات بحثنا.
تمهيد على عجالة:
الحج كما لا يخفى على أحد يعتبر من العبادات التي اختلفت فيها أحوال الناس في هذا الزمن اختلافاً كثيراً، وذلك بسبب سهولة المواصلات، وتقارب البلدان، ويسر الانتقال، مما أدى إلى أن يصل إلى البيت الحرام لأداء مناسك الحج والعمرة أعداد غفيرة هائلة لم تكن في عصر من العصور السابقة، وقد مرَّ على الحج ما يقرب من أربعة عشر قرناً أو قريباً من هذا، والحجاج يتراوحون بين أعداد محدودة يسعها المسجد الحرام والمشاعر المقدسة، حتى أن الحجاج إلى عهد قريب كانوا إذا نزلوا بمنى ينزلون في ناحية منها بسبب قلتهم، ثم تغيرت الحال بفضل الله - سبحانه وتعالى -، وأصبح كثير من المسلمين في أصقاع الأرض يستطيعون أداء هذه الفريضة، فتوافدوا وتقاطروا إلى هذا البيت، وعظم العدد، وترتب على ذلك أمور من أعظمها وأهمها وأشدها إلحاحاً ما يترتب على وجود هذه الأعداد الغفيرة في هذه المناطق المحدودة الأتساع؛ من المشقة العظيمة، وهذا ما جعل أهل العلم يراجعون بحث كثير من المسائل، وإن لم تكن من النوازل يبحثونها، ويعيدون النظر في الأدلة؛ كل ذلك بسبب كثرة الحجاج، وما نتج عن هذه الكثرة من ازدحام شديد، ومشاق عظيمة، ووفيات، وأمور لا تخفى على أحد.
وبالتالي فإنه لابد من النظر في مسائل الحج، وفي أعماله، وفي مناسكه؛ وفق هذه الظروف، وهذه الأحوال، بما لا يخل بأداء هذه الشعيرة العظيمة، وفي المقابل لا يلزم الناس بما لم يلزمهم به الشارع الكريم مما يترتب عليه إزهاق الأرواح، والضرر العظيم الذي يلحق بالمسلمين رجالاً ونساءً، أقوياءً وضعفاءً، وحديثنا في هذه الوريقات: عن فقه التيسير في الحج من خلال هذه النواحي.
أولاً: ما المراد بالتيسير في الحج:
التيسير في الحج: هو الأخذ بأيسر الأقوال التي تحتملها الأدلة
وليس كل خلاف جاء معتبراً                 إلا خلاف له حظ من النظرِ
فالتيسير هو الأخذ بما يناسب أحوال الناس، وما يرفع الحرج والمشقة عنهم مما تحتمله الأدلة، مما له حظ من النظر، مما له مساغ، وليس التيسير هو أن تضيع أوامر الله - سبحانه وتعالى - وتضيع أوامر رسوله - صلى الله عليه وسلم -15.
ثانياً: ضوابط التيسير:
ليعلم إن فقه التيسير لا يعني المروقّ من الدين، أو الانحلال والتفريط في العمل بأحكام الشرع الحنيف، بل هو منهج علمٍ، ومدرسة فقهٍ، وطريق فتيا، وحياةٍ أمثل للمسلمين.
فالتيسير ورفع الحرج عن المكلفين إذا لم يصادم نصاً صريحاً، أو إجماعاً معتبراً، وكان متفقاً مع أصول الشرع الكلية، ومقاصده العامة؛ مراعياً تبدل الأزمان والأماكن، وتغير الظروف والأحوال، فهذا مما ينبغي العمل به، وجريان الفتيا عليه، فأزمان المحن والشدائد ليست كأزمان السعة والاستقرار، وأحوال الخائفين ليست كأحوال الآمنين، ومن وقع في ضرورةٍ أو حاجةٍ ليس حاله كحال من هو في السعة والطمأنينة، يقول ابن عبد البر: "أن المرء ينبغي له ترك ما عسر عليه من أمور الدنيا والآخرة، وترك الإلحاح فيه إذا لم يضطر إليه، والميل إلى اليسر أبداً، فإن اليسر في الأمور كلها أحب إلى الله وإلى رسوله قال - تعالى -: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}16، وفي معنى هذا الأخذ برخص الله - تعالى -، ورخص رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والأخذ برخص العلماء ما لم يكن القول خطأ بينا"17.
وقد ذكر العلماء ضوابط للتيسير هاك بعضها:
أولاً: إن فقه التيسير في الحج لا بد أن يكون نابعاً من مقاصد الإسلام في إقامة هذه الشعائر، وإذا كان التيسير يؤول إلى استهداف شعيرة، أو نسك، أو مقصد؛ فإن ذلك لا يكون تيسيراً، وللحج مقاصد عظيمة، أعظمها تحقيق توحيد الله، وعبوديته، وإقامة ذكره وشكره، والوقوف بتلك المواقف العظيمة التي هي مواقف أنبيائه، وتعظيم شعائره، والمشقة التي تلزم تحقيق هذه المقاصد غير معتبرة في التخفيف؛ لأنها ملازمة للعبادة لا تنفك عنها، فالحج أساسه مشاق يؤجر عليها العبد، ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أجرك على قدر نصبك))18، ويبين بعض هذه المقاصد مثل قوله - تعالى -: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}19، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما جعل الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ورمي الجمار؛ لإقامة ذكر الله))20.
ثانياً: ومن ضوابط التيسير المهمة: تحديد مفهوم التيسير، وضبط حدوده، فقد يكون التيسير فيما ظاهره العسر؛ لأن من النصح للمسلمين دلالتهم على أمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - لاسيما فيما كان دلالته على الحكم ظاهرة، وأقوال العلماء يستدل لها لا بها، والأئمة مجمعون على أنه لا يجوز الأخذ بأقوالهم إذا خالفت نصوص الشرع21.
ثالثاً: ومن تحديد معالم التيسير السير فيه على منهج وسط، فلا يكون اتباع التيسير ردة فعل تجنح بالمرء إلى الطرف الآخر، يقول الشاطبي: "المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال، والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة، فإنه قد مر أن مقاصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط، فإذا جاءت عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموماً عند العلماء الراسخين"، إلى أن قال: "فعلى هذا يكون الميل إلى الرخص في الفتيا بإطلاق مضاداً للمشي على التوسط، كما أن الميل إلى التشديد مضاد له أيضاً، ... والوسط هو معظم الشريعة وأم الكتاب"22.
رابعاً: ومن ضوابط  التيسير فيما يكون من الخلاف: أن الخلاف الذي يبني على دليل، وله حظ من النظر؛ يكون رافداً من روافد التيسير لا باعتبار وقوعه فقط، وإنما بالنظر إلى مأخذه، فربما يكون الاجتهاد السابق مبنياً على ظروف بيئية تغيرت، واقتضى تغيرها إعادة الاجتهاد، أو يكون الاجتهاد بني على نظر لم يظهر فيه ما يستدعي التقييد في الحكم، أو ترك التقييد، أو أن واقع الناس في التهاون أوجب نظراً إلى مآل الحكم، أو لغير ذلك من الاعتبارات، فالاستفادة من الخلاف يكون في إعادة الاجتهاد فيه على ضوء المتغيرات، لكن الناظر في الخلاف لمعرفة الراجح فهذا المعول عليه؛ لأن الحق لا يتعدد، فالمجتهد معذور باجتهاده، ومن فهم أن الخلاف متعلق للتوسيع بحيث يجعل الخيرة للمستفتي باتباع ما يهواه فذاك ليس تيسيراً، وإنما نوع من اتباع الهوى المذموم، يقول الشاطبي "وأكثر من هذا شأنه من أهل الانتماء إلى العلم يتعلق بالخلاف الوارد في المسائل العلمية، بحيث يتحرى الفتوى بالقول الذي يوافق هوى المستفتي، بناء منه على أن الفتوى بالقول المخالف لهواه تشديد عليه، وحرج في حقه، وأن الخلاف إنما يكون رحمة لهذا المعنى، وليس بين التشديد والتخفيف واسطة، وهذا قلب للمعنى المقصود في الشريعة"، ثم قال: "وإن كانت المذاهب كلها طرقاً إلى الله، ولكن الترجيح فيها لا بد منه؛ لأنه أبعد من اتباع الهوى كما تقدم، وأقرب إلى تحري قصد الشارع في مسائل الاجتهاد"23.
خامساً: أن يكون من خلال الأدلة، وعلى ضوء فهم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم اصطفاهم الله واختارهم لصحبة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، وحمل هذا الدين، وفهمهم أقرب إلى الصواب، فهم عاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعايشوا التنزيل والوحي، وأدركوا ما لم يدركه غيرهم، ولذا فإن بناء الحكم على فهمهم وفتاواهم وأقوالهم أقرب إلى موافقة مقاصد الشرع ومراميه في هذه الشعيرة العظيمة.
سادساً: فإن من المهم في التيسير ملاحظة المألآت، وتحري المقاصد، فإذا كان هذا الأمر يؤول إلى التوسع مذموم، أو تجاسر على ما ليس مجالاً للتوسع فإن سد الذرائع من الأصول المعتبرة، والملاحظ أن بعض الناس بناء على ضعف الديانة، وظروف الحج؛ يبحث عن أي مخرج، بل يفتي نفسه بناء على ما سمع، أو يقيس على ما يراه موافقاً لقول أو ما أشبه ذلك، فإدراك مثل هذه الجوانب تضبط هذا المسار المهم.24
ثالثاً: ثبوت التيسير في شعيرة الحج خاصة:
وهناك ما يدل على أن هذا الركن مبني أيضاً على التيسير والسماحة فمن هذه الأدلة:
1- قول الله - سبحانه وتعالى -: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}25 وفي هذا أخبر الله - سبحانه وتعالى - أنه لم يجعل على عباده في هذا الدين من حرج، وأن هذا الدين والحنيفية السمحة التي بعث بها إبراهيم - عليه السلام -، والحج من أعظم الميراث الذي ورثته هذه الأمة المسلمة عن إبراهيم الخليل، فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث الذي رواه الخمسة، وقال عنه الترمذي: إنه حديث حسن صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث منادياً ينادي على الناس وهم في المشاعر: "أيها الناس كونوا على مشاعركم، فإنكم على أرث من أرث إبراهيم - عليه السلام -"، فهذه الشعيرة وهذا النسك وهذا الحج من أعظم ما ورثتهُ هذا الأمة عن إبراهيم الخليل - عليه السلام - من الدين والحنيفية السمحة التي يسرها الله - سبحانه وتعالى - لعباده.
2- ومن الأدلة الدالة على أن هذا الركن وهذه الشعيرة بنيت على التيسير الأدلة الدالة على فرضية هذا الحج، فإن الله - سبحانه وتعالى - جعل فرض الحج مشروطاً بالاستطاعة، ولو تأملت فإن الصلاة مشروطة بالاستطاعة، والزكاة مشروطة بالاستطاعة، والصوم مشروط بالاستطاعة، ولكنك لا تجد هذا الشروط مقارنة لفرضية الصيام، أو الصلاة، أو الزكاة، بخلاف الحج فإنك تجد اشتراط الاستطاعة في الدليل الدال على الفرضية كما قال الله - سبحانه وتعالى -: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }26، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( بني الإسلام على خمسة ...، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً))27، فالاستطاعة هنا مؤكد عليها في فرضية الحج، وفي وجوب الحج كما لم يؤكد عليها في غيره، مع أنها شرط في الصيام والزكاة لماذا؟ لأن هذه الشعيرة شعيرة يرد فيها أنها يمكن أن يكون فيها مشقة وعسر وعدم قدرة، فإذا كانت الاستطاعة شرطاً في الحج، والعسر مرفوع في أصل فرضية الحج؛ فرفعه في أجزاءهِ، وفي أعماله؛ من باب أولى.
3- ومن الأدلة الدالة على أن هذه الشعيرة مبنية على التيسير، أنه في كثير من أعمال الحج تجد أنها مبنية على التخيير، والتخيير نوع من التيسير، فأنت مخير في الميقات بين ثلاثة أنساك وهذا أول التيسير، ثم إذا دخلت النسك فإنك إن أتيت محظوراً من محظورات الإحرام قيل لك: {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}28 على التخيير، وهذا نوع من التيسير، ولو أنك قتلت الصيد وأنت محرم لقيل لك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}29 فجزاء الصيد مبني على التخيير، ويوم العيد يوجد لديك مجموعة من الأعمال: رمي جمرة العقبة، والطواف، والسعي، والحلق والنحر بأي شيء ابدأ أو أقدم، فأنت بالخيار، وإذا كان في اليوم الثاني عشر فأنت بالخيار إن شئت أن تتعجل، أو شئت أن تتأخر، كل هذه أدلة دالة على أن هذه الشعيرة مبنية على التيسير.
4- ومن الأدلة الدالة على أن هذا النسك مبني على التيسير والسماحة أنه في أكثر من موضع كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرخص للضعفة، وذوي الحاجات والأعذار؛ في أعمال من أعمال الحج، فمثلاً في ليلة جمع يقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ضعفة أهله فهذه رخصة، والرخصة لا شك أنها تيسير وتسهيل، وفي ليالي منى رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - للرعاة في البيتوتة ألا يبيتوا، ورخص للرعاة أيضاً في أن يجمعوا رمي يومين في يوم واحد، ورخص - صلى الله عليه وسلم - للسقاة في ترك المبيت بمنى ليالي أيام التشريق، كل هذه الرخص مظاهر ودلائل تدل على أن هذه الشعيرة مبنية على التيسير والسماحة والتسهيل فيما لا يخرج عن دائرة ما أمر الله - سبحانه وتعالى - به، أو أمر به رسوله - صلى الله عليه وسلم -.30
5- وقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما سئل يوم العيد عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: ((افعل ولا حرج، افعل ولا حرج))31، فالحديث يدل على جواز تقديم بعض الأمور المذكورة فيها على بعض، وهو إجماع كما قال ابن قدامة في المغني، وقال صاحب الفتح: "إلا أنهم اختلفوا في وجوب الدم في بعض المواضع انتهى"32، فهذه الكلمة ((لا حرج)) معناها أن النسك ما بني على الحرج، وإنما بني على اليسر والسماحة والتسهيل، فإن الله - عز وجل - في غنىً عن مشقتنا وعنتنا، وما نلقاه من الأذى والعنت إنما بعثنا الله - سبحانه وتعالى - إلى هذا البيت، وأرسلنا وأمرنا وحثنا لأمر آخر ليس للمشقة.
وقبل الختام ينبغي الإشارة إلى أمرين:
- أن الأولى والأفضل والأحرى ترتيب وظائف يوم النحر كما جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر: (الرمي ثم الذبح ثم الحلق ثم الطواف)، ونقل الإجماع على هذا ابن حجر في الفتح، وقال: "وقد أجمع العلماء على مطلوبية هذا الترتيب"33، وهذا الحكم يشمل جميع المناسك من باب أولى.
- ألَّا يكون التوسع في ذلك إلا في حال نسيان أو خطأ ما أمكن، لا أن يتعمد الفعل، خروجاً من الخلاف، ودفعاً للحرج المترتب، وقد نص على هذا صاحب المنتقى فقال: "وقوله - صلى الله عليه وسلم - ((انحر ولا حرج)) يحتمل أن يريد لا إثم عليك؛ لأن الحرج الإثم، ومعظم سؤال السائل إنما كان عن ذلك خوفاً من أن يكون قد أثم، فأعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا حرج عليه إذا لم يقصد المخالفة، وإنما أتى ذلك عن غير علم ولا قصد مع خفة الأمر، وإنما هو ترتيب مستحب لا تبطل العبادة بمخالفته، ولا تؤثر فيها نقصاً... ثم قال: ((افعل ولا حرج)) لا يقتضي إباحة ذلك؛ لأنه إنما سئل عمن فعل ذلك جهلاً، وقد بيَّن الترتيب في الحج فكان ذلك هو المشروع، ولا يقتضي ذلك رفع الحرج في تقديم شيء ولا تأخيره عن المسألتين المنصوص عليهما؛ لأننا لا ندري عن أي شيء غيرهما سئل في ذلك اليوم، وجوابه إنما كان عن سؤال السائل، فلا يدخل فيه غيره، كما لا يدخل في قوله: ((انحر ولا حرج))، ((ارم ولا حرج)) غير ذلك مما لم يسأل عنه، ولم يجب فيه، والله أعلم"34.
نسأل الله أن نكون قد وفقنا في استعراض ما طرقناه، وأن يلهمنا رشدنا، ويسدد خطونا، إنه جواد بر رحيم، والله الموفق، وعليه التكلان.

 

1 البقرة (185).
2 رواه مسلم برقم (2286).
3 رواه البخاري برقم (81)، ومسلم برقم (2301).
4 قواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير (1/44).
5 سورة البقرة (185).
6 سورة الحج (78).
7 رواه البخاري برقم (67)، ومسلم بنفس اللفظ ولكنه لم يورد ((وبشروا)).
8 رواه النسائي برقم (4948)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1161).
9 رواه مسلم برقم (4697).
10 رواه البخاري برقم (3296)، ومسلم برقم (4294).
11 سورة البقرة (185).
12 التثريب في شرح التقريب (2/66).
13 قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام (2/6-10).
14 سنن الدارمي (1/63).
15 فقه النوازل في الحج للسكاكر (98).
16 سورة البقرة (185)
17 التمهيد لابن عبد البر (8/146).
18 رواه مسلم برقم (2120).
19 سورة الحج (26).
20 رواه أبو داود برقم (826)، وأحمد برقم (23215)، والدارمي برقم (1780)، وضعفه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (2624).
21 ذخر المحتي من آداب المفتي صديق حسن خان (62).
22 الموافقات للشاطبي (4/258-259).
23 الموافقات (4/259).
24 ضوابط التيسير في مناسك أيام التشريق (12-13)بتصرف.
25 سورة الحج (78).
26 سورة آل عمران (97).
27 رواه مسلم برقم (13).
28 سورة البقرة (196)
29 سورة المائدة (95)
30 من كتاب نوازل الحج للسكاكر بتصرف (87-91).
31 سبق تخريجه برقم (3) في الحاشية.
32 عون المعبود (5/ 318).
33 فتح الباري (3/571).
34 المنتقى شرح الموطأ - عند شرحه حديث أفعل ولا حرج -.