|
قبل الحديث عن
تلك الأطوار، ورغبة منّا في المساعدة (بخصوص الفتاة التي اغتصبها رجلان من
جهاز الشرطة) وحتّى نكون عمليّين، أبشّر كلّ التونسيّين أنّ إصلاح
مؤسّساتنا الأمنيّة أمر مقدور عليه، إذا سرنا على الطريقة التايلانديّة.
ففي تقرير إخباريّ بُث على إحدى القنوات الفرنسيّة، شاهدت منذ أيّام شرطيّا في العاصمة بانكوك يتحوّل إلى قابلة ليقوم بتوليد إحدى النساء التي عَلـِقت في ازدحام مروري فلم تتمكّن من الوصول إلى المستشفى. عون الأمن الذي ظهر في التقرير لم يقم بذلك العمل باعتباره نافلة بل واجبا مفروضا عليه ومهمّة من بين المهامّ التي كُلّف بها، فقد تلقّى تكوينا يساعده على أداء ذلك العمل بحرفيّة ونجاح تكرّر سبعا وأربعين مرّة، الأمر الذي جعله في كلّ مرّة يشعر بالسعادة والرضا خصوصا عندما يسمع بكاء الرضيع مؤذنا بنجاح المهمّة. ويضيف التقرير أنّ مائة وسبعا من رجال شرطة المرور تلقّوا في العام الجاري ذلك التكوين، وهم يحملون على درّاجاتهم كلّ الوسائل الطبيّة اللازمة لأداء مهمّتهم الإنسانيّة. تفكّرت طويلا في مضمون ما رأيت وما سمعت، وفي ملامح الشرطي التايلانديّ وهو يتحدّث بصدق عن فخره بما صنعه خدمة للمجتمع، وتأمّلت في أوضاع الشرطة بمختلف أسلاكها في عالمنا العربيّ، فأصابني شيء من الإحباط ، وأيقنت أنّ إصلاحا بذلك العمق لا وصول إليه إلاّ بدخول الجمل في سمّ الخياط. فالخبر في حدّ ذاته لم يبثّ في قنواتنا العربيّة ولا حتّى في القنوات التونسيّة التي مازالت تتخبّط في جدل متشعّب حول قضيّة تلك الفتاة التي تتعرّض الآن لإساءة متكرّرة بسبب استغلال إعلاميّ مشحون حوّل مأساتها من حادثة جنائيّة ضيّقة النطاق إلى قضيّة من قضايا الثورة تجاوزت قطرنا الصغير إلى بعد إقليميّ أوسع. شحنة سياسيّة في إعلامنا في تونس، مازلنا نعيش تحت وطأة 'الشحنة السياسيّة' التي أصابت كلّ القطاعات بالارتباك وأدخلت البلاد والعباد في مناخ ساخن انتظارا لاستكمال مراحل الانتقال الديمقراطي وما سيتبعه من انتخابات لعلّها تمنحنا أفقا مغايرا تستقرّ معه حالة الفوران. وفي هذه الحالة التي تعطّلت معها هيبة الدولة، لا يمرّ حدث مهما كان بريئا أو بسيطا دون أن يستغلّه المحترفون من عالم السياسة والإعلام فيشحنوه بكلّ ما يحتمله وما لا يحتمله من الإسقاطات السياسيّة والنتائج التي تصبّ في مصلحة أطراف بعينها. و آخر هذه الأحداث يتعلّق بالشابّة التي وقعت في قبضة رجال الشرطة في ليلة مقمرة حيث كانت رفقة 'خطيبها' أو 'عشيقها' الذي كان يجالسها قبيل الفجر (وبكلّ أدب) في سيّارتها الخاصّة. كان الوقت متأخّرا والشارع خاليا، والذئب لا يأكل من الغنم إلاّ القاصية. و قد استبقت وزارة الداخليّة تلك الإسقاطات التي تعوّدت عليها فأكّدت في بلاغ نشرته في وقت سابق 'أنّها تعاملت مع هذا الملفّ بكل موضوعيّة وطبّقت ما يقتضيه القانون... والقضية برمّتها هي من أنظار القضاء، وهي تأمل من الجميع تجنّب أي توظيف سياسي أو إعلامي'. غير أنّ (التوظيف السياسيّ والإعلاميّ) وضع الوزارة من جديد في مرمى النيران، فحتّى تقرير فرانس 24 اعتبر الحادثة دليلا على 'فشل حكومة النهضة في إصلاح الجهاز الأمنيّ والقضائيّ'. والحادثة أقامت الدنيا ولم تقعدها، وبعض الفضائيّات (من فرط اهتمامها بالموضوع) تبنّت القضيّة وأعلنت الحرب على المتورّطين فيها، وهم رجال الشرطة الذين اغتصبوا، والوزير علي العريّض الذي ' فشل في إصلاح وزارته'، والشيخ راشد الغنوشي باعتباره 'الحاكم الفعليّ للبلاد' و'المسؤول الأوّل عن كلّ ما يحدث فيها'. وبهذا يكون الاغتصاب جماعيّا بامتياز وبالمعنى الواسع لعبارة الجماعيّ. حتّى أنّه يتجاوز الفتاة ليشمل الثورة ومبادئها ويحوّلها إلى 'ضحيّة' كما جاء في خاتمة التقرير المتكامل من فرانس 24! الحوار التونسي تتبنّى القضيّة وفي الطور الموالي، تبنّت قناة الحوار التونسي قضية الشابّة المغتصبة وتعهّدت 'بعدم التخلّي عنها قبل أن ينال المجرمون جزاءهم'. وليس هذا بغريب من القناة التي تبنّت قبل ذلك جميع الإضرابات العمّاليّة وكلّ التحرّكات الاحتجاجيّة حتّى لو شارك فيها بضعة أنفار أو عصابة مجرمين. فتلك المادّة الإخباريّة تُبثّ يوميّا على مدار الساعة وحصريّا على قناة الحوار التونسي لصاحبها الطاهر بن حسين الذي انضمّ هو أيضا لحزب نداء تونس. ولمن لا يعرف هذا الإعلاميّ والناشط السياسيّ فعليه أن يشاهد قناته في أيّ وقت يشاء ليجد مالكها جالسا أمامه لساعة أو أكثر وهو يدير حوارا مع ضيف من ضيوفه الذين يختارهم على المقاس المناسب لأسئلته، أو لنقل محاضراته الطويلة، فنادرا ما يُسأل الضيف فيجيب وإنّما هي رحلة ثقيلة يستعرض فيها 'باعث القناة' ثقافته السياسيّة مع تحليلات (شديدة اللهجة) للوضع الذي تمرّ به البلاد حاليّا تصحبُها مجاملة وموافقة غير مشروطة من الضيف. وتلخّص هذه القناة من خلال نشرات أخبارها ومختلف برامجها صورة موغلة في الشؤم عن المشهد السياسيّ التونسيّ إذ تصوّر الأوضاع يوميّا بطريقة مشحونة تعكس الأسلوب المتّبع لخطّها التحريريّ الذي يميّزها عن بقيّة القنوات العامّة والخاصّة. وفي زمن الازدحام الفضائيّ حيث تولد في كلّ يوم قناة تحاول أن تجد لها اختصاصا جديدا، نجد الفرصة سانحة للفرار من تلك قنواتنا وأطوارها العجيبة، فهي تغتصب الكثير من وقتنا بأعمال وأفكار لا مثيل لها من حيث رداءة الشكل والمضمون. قناة نهاية الكون من الأخبار الجديدة والمثيرة في مجال البرامج التلفزيونيّة وقنواتها الخلاّقة، علمنا أنّ الباقة الفرنسيّة المشفّرة 'كنال بلوس' تستعدّ لإطلاق قناة جديدة ولكنّها مؤقّتة ستخصّصها لنهاية العالم. وسيكون جمهورها على موعد مع أفلام ومسلسلات وبرامج وثائقية تتعلّق بنهاية الكون التي قال المنجّمون (الكاذبون وإن صدقوا) إنّ موعدها سيحلّ في موفّى هذا العام. المفارقة من هذا الخبر أنّ هذه القناة (الترفيهيّة التثقيفيّة) ستبدأ العمل بدون مقدّمات لمدّة شهر واحد بخطّة احترافيّة 'عالية الجودة'. بينما تعمل بعض قنواتنا العربيّة منذ سنوات في 'بثّ تجريبيّ' مستمرّ، دون أن تنجح في نحت رؤية برامجيّة ذات أهداف واضحة. ولعلّنا نضرب المثل بقناة الزيتونة التي تقدّم أفضل شاهد على التخبّط الإعلاميّ من حيث اعتباطيّة الموادّ المقدّمة وسذاجة أهدافها. التحقتْ منذ مدّة بركب الفضائيات التونسيّة، فلم تنجح في استقطاب الجمهور الذي وجدها وتركها في وضع شديد التذبذب فلا هي بالقناة الإخباريّة ولا هي بالقناة الدينيّة رغم أنّ خطابها متديّن أو تغلب عليه العاطفة الدينيّة. ولعلّها أشبه بنسخة من قناة طيور الجنّة التي تقدّم الأناشيد الدينيّة التربويّة للأطفال الصغار. فالأغاني التي تبثّها الزيتونة تسير على نفس النهج تقريبا، وتتخلّلها بعض التقارير الإخباريّة المنتصرة سرّا وعلنا لحركة النهضة الحاكمة. المفارقة الثانية أنّ قناة الحوار التونسي سبقت مجموعة كنال بلوس منذ زمن بعيد، فهي تقدّم نسختها عن نهاية تونس والعالم ولكنْ بطريقة رديئة جدّا لا تشدّ المشاهدين ولا تغريهم إلاّ بشطب اسمها من القائمة. شاهدوا 'افتح يا سمسم' أقدمت القناة الوطنيّة الثانية في تونس على خطوة جيّدة بإعادتها لبثّ حلقات البرنامج التربويّ الضخم 'افتح يا سمسم'. واعتبرت جريدة الصحافة الخطوة 'مفاجأة سارة بالنسبة إلى الأجيال التي كبرت مع هذه المنوعة الثقافية المتكاملة التي وُفّقت في توفير أكثر الصيغ ملاءمة لتمرير المعارف والمعلومات للطفل في سنّ مبكّرة'. شاهدت البرنامج طفلا مع والديّ وإخوتي وأشاهده اليوم مع أطفالي بنفس السعادة التي كنت أشعر بها في ذلك الماضي الجميل. فمقالب أنيس وبدر مازالت تضحكنا، والوحش الذي يحبّ البسكويت والضفدع كامل الذي أدهشنا، فقرات حافظت على طرافتها، ونعمان وملسون وعبد الله وحمد وفاطمة، كلّهم أبطال ساهموا في تربيتنا وتعليمنا ومازالوا قادرين على ذلك مع الأجيال الجديدة التي تشاهد الكثير من البرامج 'الضارّة'. افتح يا سمسم، يحملنا يوميّا إلى ذكريات جميلة، عن مجتمعاتنا البسيطة قبل أن تصيبها شرور هذا العصر المعقّد. وهو اليوم استراحة ألجأ إليها هربا من ضجيج الفضائيات الصاخب المشحون. كاتب تونسي. abderguirat@gmail.com |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق