بعد أن تكاثر عدد المغتربين العرب في
البرازيل وانتقوا حياة الاستقرار
بين ربوعها غدا لزاماً عليهم أن تتضامّ خلايا مجتمعهم الصغير، فراحوا
يقيمون المؤسّسات الاجتماعية والفنّية والرياضية والأدبية متوسّلين بذلك
إلى تحقيق استمرار حياتهم الاجتماعية المتميزة. وما كان لتلك المنتديات أن
تقوم بغير المال، والمال وفير والمتبرّعون به كثيرون، ومن هنا ازدهرت
الأندية العربية في البرازيل ازدهاراً باهراً ليس له مثيل في سائر المهاجر إن لم نقل في الوطن نفسه.
ومن أقدم هذه النوادي "نادي حرمون" في سان باولو، الذي سعى
إلى تأسيسه فارس الدبغي، وكان عميق الأثر في الجالية
العربية، وأولى الناحية الأدبية عناية خاصّة ولكنّه لم يدم. و"نادي الأرز"
أو المنتدى الزحلي الذي ترأّسه فوزي المعلوف، ثمّ "النادي
الفينيقي" في العاصمة وكان مؤسّسه ورئيسه عقل الجر،
وأخيراً "النادي الحمصي" في سان باولو، وهو أفخم هذه النوادي وأشهرها، وهو
الذي كان موئل الحياة الأدبية الناشطة قبل عهد العصبة الأندلسية وفي إبّان
وجودها. والملاحظ أنّ رجال الأدب والشعر هم الذين كانوا على رأس المنتديات
المذكورة وسواها، ومن هنا لقي الأدب في ظلّهم اهتماماً ورعاية بالغين، وكان
كلّ حدث خطير في الوطن يلقى صداه الحارّ في تلك الأبهاء الرحيبة التي
تكتظّ بأبناء الجالية. ويكون للكلمة في تلك المناسبات شأن وأيّ شأن، فيتبارى الخطباء ويتنافس الشعراء
وتعزف الموسيقا وتهزج الأناشيد ويغدو من ذلك كلّه مهرجان ملء السمع.
في هذه المنتديات أقيمت الحفلات الأدبية إحياء لذكرى أعلام العرب وتخليداً للمناسبات
القومية والاجتماعية، فاحتفل مرّات ومرّات بمولد الرسول محمّد (ص)
وبذكرى هجرته، وبتمجيد الثورات القومية، وتخليد الشهداء والأبطال، ومؤازرة
المقيمين في نضالهم العاثر، والتبرّع لهم بوافر المال، ومشاركتهم بأعياد
النصر وأفراح الجلاء عن سورية ولبنان.. وفي هذه المنتديات أيضاً احتفل أبناؤنا هناك بذكرى المتنبّي وأمين
الريحاني وفرح أنطون وسليمان البستاني وفوزي
المعلوف وأحمد شوقي وجبران خليل جبران والملك
الشريف حسين ثمّ ابنه الملك فيصل،
وسواهم ممّن أنجبهم العرب في القديم والحديث..
أمّا الكنيسة الشرقية فهي تؤلّف ركناً هامّاً من حياة
المغتربين الأدبية والاجتماعية. فقد كان لبعض رجالها أمجاد في الأرض وأمجاد
في السماء، سواء في الوطن أو في المهجر. "كانت الكنيسة الشرقية بيت الله
للجميع وبيت العروبة للمغتربين وظلَّت حبل
الاعتصام الأقوى، والعروة الوثقى التي تربط هؤلاء المغتربين بوطنهم الأوّل
في السرّاء والضرّاء. لقد جعلت من رسالتها نشر لغة القرآن، وعرّفت بالوطن
العربي وبتراثه وأمجاده تعريفاً رقيقاً هادئاً مخلصاً تمكّن من قلوب
البرازيليين الذين كانوا يهرعون إلى هذه الكنائس ليروا في سمات رعاتها وملامحهم ذكريات
ملهمة من بلد السيّد المسيح، كما يرون في رفعتهم وإبائهم أثراً من الشرق العريق".
ومع كلّ ما كان للجمعيات والمنتديات من فضل على رفعة لغة
الضاد في ذلك المهجر القصيّ فإنّ المجد الأدبي لم تبنَ دولته هناك إلاّ على
أعمدة الصحافة. وإذا كان ظهور أوّل جريدة عربية إيذاناً بحياة استقرار
اجتماعي باهر فقد كان في الوقت نفسه فاتحة عهد جديد لأدب عربي زاهر. ولكنّ
إصدار جريدة في تلك البيئة وذلك العهد كان بالنسبة إلى الصحفي الأوّل
يومذاك مغامرة لا تقل عن اقتحامه البحار نحو العالم الجديد وهو لم يسبق له
أن ابتعد إلى أكثر من تخوم قريته. ومع ذلك استطاع أن يقيم أقوى صرح تجاري،
ثمّ أن يحقّق أعظم مجد أدبي. لقد أصدر ذلك الصحفي الرائد وريقته تلك بلغتها
العجيبة وحروفها الغريبة دون
أن يدري هو نفسه لمَن يصدرها ([1])،
فالأمّية متفشّية بين المهاجرين الأوائل وأكثرهم لا يلوي على فكر أو ثقافة، بل ما أكثر ما كانوا يثبطون الهمم ويوهنون العزائم وهم يقولون "إنّ ربح المال
يحتاج إلى سواعد مفتولة لا إلى أفكار ناضجة" ([2]).
ويعدُّ ظهور الصحافة في البرازيل مبكراً إذا قيس إلى ظهورها
في الولايات المتحدة. فصدور "كوكب أميركا" في الشمال كان عام 1892 أي بعد
وصول المهاجر الأوّل بما يقرب من أربعين عاماً. في حين أصدر سليم
بالش جريدة "الفيحاء" عام 1895 في مدينة (كمبيناس) أي بعد وصول
المهاجر الأوّل إلى البرازيل بعشرين عاماً، وكانت بذلك أوّل جريدة عربية في
أميركا اللاتينية ([3]). وقد
جلبت حروفها من ألمانيا، وكانت آلتها الطابعة شديدة البطء، ثمّ صدرت أوّل
جريدة في العاصمة ريو دو جانيرو وهي "الرقيب" عام 1896. وكان من الغريب أن
يتأخّر صدور أوّل جريدة في سان باولو إلى 12 أيار (مايو) سنة 1898 حين صدرت
جريدة "الأصمعي" ([4]).
ويستفاد من كتاب تاريخ الصحافة لطرازي أنّه
حتّى عام 1929 فقط كان قد صدر في البرازيل من الجرائد والمجلاّت 95، وفي
الولايات المتحدة 79، وفي الأرجنتين 58. ومجموع ما صدر منها في سان باولو
كان 49، وفي نيويورك 35 وفي بوينس أيرس 30. ولا ريب في أنّ عدد هذه الصحف
العربية قد ازداد فوق ذلك القدر، ونرجح أنّه قد بلغ أقصاه خلال فترة تأسيس
العصبة الأندلسية عام 1933. ثمّ لم يلبث هذا المدّ الكبير أن انحسر اليوم
إلى ما لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة ([5]).
على أنّ هذه الصحف التي شهرت مآثر المغتربين الأدبية والاجتماعية وأذاعت مناقب قومهم
وشاركتهم في سرائهم وضرائهم... كانت تنطوي في الوقت نفسه على شرّ كبير،
وهذه الكثرة البالغة في عددها ليست من حيث الأساس ظاهرة سوية لدى جالية
محدودة الكيان. هي في
الأصل صناعة وفنّ فآلت إلى مهنة وتجارة، وكان مألوفاً في تلك البيئة أن
يتحوّل التاجر عن تجارته وأن يجرّب حظّه في الصحافة، أو أن يغلق الصحفي
جريدته مؤثراً ممارسة التجارة. وليس غريباً أن نرى صحفاً متعدّدة كان قد
أصدرها رجل واحد، أو نرى صحفاً تلد اليوم وتموت بعد أيّام.
لقد ذهبت المساوئ الكثيرة بهيبة الصحافة "وبذلت حرمتها وعبثت
بكرامتها، حتّى أصبحت ممارستها عنواناً للخمول ومجلبة للمهانة ومدرجة للازدراء، وحتّى غدا الصحافي سميّ المستعطي
وزميل المحتال، اقتحم ميدانها وهو أعزل من العدد الأدبية والأخلاقية
فاتّخذها وسيلة للارتزاق وجعل منها حيناً طبولاً وأبواقاً للمديح والإطناب
من غير حساب، وحيناً أداة للتعبير والمثالب والتشهير" ([6]). ومَن
يطالع صحف المهجر البرازيلي يبدو له بيسر جوّ المشادة والتهاتر. والحقّ أنّ
صحافة الوطن وبخاصّة لبنان لم تكن خيراً منها في المهجر، فالطائفية
والحزبية والمآرب والأهواء كانت تزيد الأمّة انقساماً والمجتمع تمزّقاً، إذ
لكلّ فئة صحفها وأبواقها التي تجدّد كلّ يوم سعير الخلاف، وتبعث كلّ صباح عناصر الحقد. ولم
يكن غريباً أن يحمل المهاجرون خلافاتهم إلى مهاجرهم، أوَليست حياتهم في
مهجرهم إلاّ امتداداً لحياتهم في وطنهم؟ ولكـنّ العجيب أن يستشري الخلاف
بين جالية تعيش داخل مجتمع غريب ([7])، وأن
تجد من عناصر الفرقة والخصام أكثر ممّا تجد من عناصر الألفة والوئام. إنّهم كما يقول الشاعر فرحات ([8]):
متباينو الأذواق والأخلاق والـ كثرت مدارسهم فقلّ وفاقهم وطمت مذاهبهم على تفكيرهم |
|
ـعادات والنزعات والأوصافِ
وتشعّبوا بتشعّب الأهداف فغدت منابع فتنة وخلاف |
وإنّ تسلّط بعض
المتطفّلين على الصحافة ممّن لا تنطوي جوانحهم على وازع خلقي أو تبعة قومية
كان ينتهي في كثير من الأحيان بين المتراشقين إلى السبّ والقذع وقد يؤدّي
إلى الاغتيال، إذ لا تلبث معركة القلم أن تنقلب إلى معركة المسدّس ([9]). وإذا
كان أولئك على تلك الحال وكان بأسهم بينهم شديداً فليس بمستغرب من مثلهم
اختلاف المنازع واختلال القيم. ولعلّ من المفيد أن نورد نماذج حية ممّا كان
ينشر في تلك الصحف.
لقد وصف الكاتب توفيق ضعون حفلة أدبية ألقى
فيها الشاعر القروي قصيدة قومية فكتب إلى الشاعر ([10]): "لقد
صفّق للقصيدة واستعاد عدّة من
أبياتها ستمائة شخص إلاّ اثنين وكانت الحماسة بالغة أشدّها عند الجميع، وإنّني لا أستطيع تنزيه بعض اللغويين عن
الغرض لأنّهم انتقدوا القصيدة بروح العداء السياسي، ولو كان استهلالها في
مدح فرنسا لما رأوا فيها عيباً..". ولكنّ صحيفة عربية ذات هوى قالت في وصف
الحفلة نفسها ([11]): "نهض
الأديب رشيد سليم الخوري الذي يلقّب نفسه
بالشاعر القروي وكدّر صفو الحفلة برثائه ونواحه نادباً
حظّ لبنان في عهده الحاضر، وكان الأحرى به أن يحزن لحظّ الناس بسماعه.. في نظم مشلول ومعنى سقيم وآراء
بائخة رمى بها لبنان
وحكومته وفرنسا أيضاً بالمحرجات من الأرجاف والاختلاق.. وقد قيل لنا إنّ رئيس النادي شعر بنفور الجمهور
فتنصّل علناً من بذاءته.. وقد بلغ الحنق ببعض اللبنانيين حتّى كادوا يصفعون
ذلك (الهجاص).. وما كاد يبتر هذا القروي قصيده الهلالي
حتّى كان الحضور قد أشبعوه صفيراً وهزءاً.. إلخ إلخ وإنّ خوار هذا الشاعر لا يضرُّ بسمعته كما يضرُّ بسمعة النادي ويسوّد صفحته في عيون
اللبنانيين". فأين هذا الكلام من ذاك، وأيّة حقيقة تكمن في سطور كهذه
أملاها الهوى والحقد؟
وفي حين كان نفر من أحرار لبنان يطالبون فرنسا بإنجاز وعدها
في الجلاء عن البلاد كتب عقل الجر في عاصمة البرازيل ([12]): "إنّ فرنسا مهما جنحت إلى التساهل في
سياسة الانتداب.. فلن تصل إلى حدِّ إيلام عواطف أمّة تعلّقت بأذيالها على مدى التاريخ..".
أمّا جريدة "أبو الهول" فكانت مع جرائد أخريات حرباً على
الروح الوطنية والمنازع العربية، فقد علّقت على كتاب ألّفه موسى
كريم بالبرتغالية واسمه "تأثير سياحة" وضمّنه انطباعاته عن زيارته
لوطنه سورية، فقال محرّرها ([13]):
"ليأتنا صاحب التأثيرات بمأثرة إنسانية واحدة لدمشق تستحقّ أن نقدّسها
لأجلها.. ليأتنا بعمل إنساني واحد قام به فرد من أفرادها لنشاركه
بتقديمها.. القداسة بعيدة عن قلمه ودمشقه وتأثيرات سياحته بعد السماء عن
الأرض.." ([14]).
ومثل هذه الحال جدير بأن يشتكى منه وأن يزهّد فيه الغيورين
على المحبّة والإخاء. لقد رحل إلياس فرحات عن سان باولو وهو
يقول غير آسف ([15]):
أرى
زمن الوئام مضى فأبكي
سأذكر ما حييت بناة مجد بنوه بالاتحاد وخلّفوه شفى داء العمى عيسى وضاعت |
|
وكم
غنّيتُ في زمن الوئامِ
بنوه من الإخاء على دعام يهدّم بالعناد والانقسام عجائبه لدى داء التعامي |
ومـا كان لمثل هذه الأجواء المتلبّدة إلاّ أن تسحب آثارها على
الأدب فيغدو "حائراً رجراجاً لا يهدأ على قاعدة ولا ينتظم في سلك ولا يدور
على محور" ([16]). لقد
وصف توفيق ضعون ذلك الجانب المؤلم من الحياة الأدبية إثر تأسيس "العصبة الأندلسية" فقال ([17]): "أصبح
شأن الأديب كشأن المعلّم الذي يمالئ الأولاد فينصرف معهم عن الدرس إلى
اللعب لأنّهم يكرهون أن يدرسوا، والكاهن الذي يحوّل البيعة إلى حانة لأنّ
رعيته تأبى الصلاة، وذلك مخافة أن يغادر الأولاد المدرسة والرعية البيعة فينقطع رزق المعلّم
والكاهن، وفي إبّان هذه الأزمة ينبري نفر من خيرة الأدباء لانتشال الأدب من
الوهدة التي سقط فيها..". إنّ في اختيار أسماء
لتلك الصحف من مثل الصاعقة والسهام والكابوس والمقرعة والهراوة الصفراء
والبركان والقلم الحديدي.. ما ينطوى على روح العراك وطابع التحدّي.
وعندما نشبت الحرب العالمية الثانية كانت تصدر في البرازيل
مئات الجرائد والمجلاّت بلغات أجنبية "وكانت هذه الصحف تعبّر دائماً عن
اتجاهات شعوبها السياسية والاجتماعية فيثير بعضها حرباً على هتلر وبعضها
حرباً على تشرشل وروزفلت أو على ستالين
والشيوعية. فرأت الحكومة البرازيلية أن تضع حدّاً لهذه التيارات
السياسية الأجنبية المتناوئة واغتنمت الفرصة (لتبرزل) البرازيل، فأصدرت قراراً بمنع
الصحف المكتوبة بلغات أجنبية من الصدور" ([18]).
وعندئذ يتنفّس الكثيرون الصعداء وينعمون بما كانوا يفتقدونه
من هدوء ووئام. ولكنّ هذا الإجراء لم يكن إلاّ بمثابة إجهاز على جسد يشكو
بعض أعضائه من مرض عارض. وما لبث المغتربون في البرازيل أن شعروا بفراغ
اجتماعي وأدبي لا يكاد يطاق، وأدركوا معنى الحرية التي كانوا ينعمون بها
والتي لم يحسن بعضهم ممارستها. وقد أعرب حبيب مسعود رئيس
تحرير مجلّة "العصبة" عن ذلك الشعور بقوله ([19]): "إنّ انحجاب الصحافة العربية في منتصف
عام 1941 قد عقل لساننا العربي وأصاب أدبنا في صميمه، وقضى على قرائح
شعرائنا وأدبائنا، وأسكت تلك
البلابل التي كانت تصدح في خمائل الأدب فتهزُّ النفوس وترهق الإحساس وترفع الفكر ولو حيناً عن حضيض الجهاد المادّي".
والحقّ أنّ المغترب كان شديد الإقبال على مطالعة صحفه العربية
يتنسّم فيها أخبار وطنه وجاليته، بل وجوده نفسه، ويجد فيها إلى ذلك ما
يسلّيه ويرضي هواه، وهذا ما يفسّر كثرة الصحف العربية التي صدرت في
البرازيل. وقد أنس الصحفيون هذا الميل من قرّائهم فحمل بعضهم رسالة الترفيه
كما حمل بعضهم الآخر رسالة الجدّ. وكان طابع الكثير من هذه الصحف فكاهياً
هازلاً كما كان يتّخذ من العامّية أسلوباً ومـن الزجل أدباً. ولعـلّ في
أسماء بعضها دليلاً عليها من مثل "أبجد هوز"، "الفانوس"، "الماشطة"،
"المقرعة"، "الكابوس"، "الخربر".. وكان التنافس بينها شديداً، ويزيد من
شدّته انحياز كلّ لفيف من القرّاء إلى جريدة يتتبّعون ما تنشره في انتقاد
الأُخرى باهتمام، ممّا كان يساعد على رواج هذه الصحف. فحين أصدر أحدهم
جريدة أسماها "حمارة بلدنا" لم يلبث آخر حتّى أصدر بعد شهر واحدة جريدة
أُخرى تنافسها وتتحدّاها، وقـد أسماها "سائق الحمارة".
وكان أدب الحفلات ونوادر المجالس وطرف الأسمار تتبوّأ مكاناً
مرموقاً في هذه الصحف وتعمل على مؤانسة قرّائها وإمتاع نفوسهم.
وقد امتازت الصحافة العربية في البرازيل بظهور صحفيات وأديبات
في ميدانها فكانت مجلّة (الكرمة) أوّل ما صدر في سان باولو من الصحف
النسائية، ثمّ تلتها بعد ذلك مجلّة (المراحل). وأبرز العاملات في هذا الحقل
سلوى سلامة أطلس، وماريانا دعبول، وسلمى
صايغ، وأنجال عـون شليطا، وماري
يني عطا الله... وكلّهنّ مارسنَ كتابة المقالة الأدبية بنجاح.
ومن الظواهر التي اتّسمت بها صحف هذا المهجر الجنوبي أنّها
كانت تحمل في الغالب أسماء تنسبها إلى ربوع الوطن العربي أو تصلها بالأرومة
العربية. فكانت في شكلها ومضمونها بمثابة سفارات غير رسمية للأمّة
العربية، فعلى حين كانت في المهجر الشمالي صحف ومجلاّت تحمل أسماء عامّة
مثل: كوكب أمريكا، والسائح، والسمير، والهدى، كانت صحف المهجر البرازيلي
تحمل اسم جريدة الأرزة وبشرّي وفتى لبنان وبريد الشرق وفتى الشرق، وسورية الجديدة، والنهضة
اللبنانية والنجمة السورية والميماس وأبو الهول والجامعة العربية والفيحاء
وأمنية العرب... ومنها أيضاً سوق عكاظ والأصمعي وأبو نواس والشدياق والزهراوي والحمراء
والأندلس الجديدة.. إلخ. وهذه التسميات القومية لا تتجلّى بوضوح في المهجر
الشمالي، ولعلّها تعكس من بعض الجوانب الارتباط الوثيق بين مغتربي البرازيل
وبين أرومتهم، وتفسّر غلبة
الاتجاه القومي على أدباء المهجر الجنوبي عامّة وأعضاء العصبة الأندلسية
بوجه خاصّ.
ولم تكن الصحف العربية في ذلك المحيط الأعجمي – على سوءاتها – إلاّ مدارس نقّالة تعلّم
الكثيرون وتأدّبوا على صفحاتها.
إنّه من قلب المدارس والمعاهد التي
أقامها المغتربون خرج آلاف المتعلّمين يقرؤون ويكتبون بلغة الضاد، ويمدّون
بذلك جسوراً مديدة بينهم وبين قومهم، وإنّه بهم خلقت نواة جمهور أدبي لم يكن لمثلها نظير في سائر
المهاجر، جمهور مستنير غدا قاعدة الثقافة العربية في ذلك المحيط الأعجمي.
أمّـا غيرته الفنّية وحماسته القومية فقلّ أن بلغها جمهور آخر في الوطن وفي
خارجه. لقد راح يستجيب لداعي ضميره ودعوة أدبائه فيبذل بسخاء لقضية بلاده
وشهداء أمّته، ولكنّه فوق ذلك راح يكرم أدباءه وهم على قيد الحياة، فيمنحهم
الكثير من العزاء، وينفحهم بمزيد من العزم والمضاء، إنّه هو الذي رعى
حقوقهم وبالغ في تكريمهم فيما أقامه لهم من مهرجانات حافلة، وهو الذي سعى
إلى إقامة تماثيل لبعض مَن أنكروا ذاتهم، وتنادى إلى بناء بيت يقطنه من أمضى حياته وهو
ينظم الأبيات من روحه وسهره لقومه، وسعى إلى طبع دواوين عديدة لشعراء
طالما تغنّوا بأمجاد بلادهم وقصروا فنّهم على أمّتهم.
وإنّه في أبهاء
المنتديات الحافلة ومن على منابرها المدوّية شعَّ نور الأدب وازدهر فنّ الخطابة هذا
الفنّ الذي يذكّر بازدهاره لدى السلف العربي في فجر حضارتهم، حتّى إنّه غدا
تقليداً لازماً أن يكون لكلّ نادٍ من نوادي الجالية في البرازيل خطيب
معلوم يختار أو ينتخب لهذه الغاية. وعلى صفحات الصحافة الأدبية ازدهرت
المقالة الأدبية وارتقت القصيدة الشعرية وذاع شأن الأدب في المهجر وفي
الوطن. وإنّ ما تنطوي عليه الكلمة المسموعة في المنابر
والكلمة المكتوبة في الصحائف من حوافز على ممارسة فنّ القول هو الذي عمل
على خلق الأديب العربي في البرازيل خطيباً وكاتباً وشاعراً. لقد تفتّقت تلك
البيئة الأدبية الخصبة عن ثمار ناضجة من الشعراء النابغين والكتّاب
النابهين من مثل إلياس فرحات والشاعر
المدني ونصر سمعان وحبيب مسعود
وتوفيق ضعون وإسكندر كرباج وفؤاد نمر.. وكلّهم لم يتح لهم في وطنهم من الزاد الثقافي إلاّ أقلّه. وقد
أمسكت طائفة أُخرى بأعنّة اللغة وملكت زمام النقد فصنّفت المعاجم العربية
وألّفت البحوث اللغوية، وكانت بالمرصاد أيضاً لكلّ نتاج أدبي تتناوله
بالنقد والتمحيص. وهذا المستوى الأدبي اللائق الذي بلغه مغتربو البرازيل هو
الذي دعا جورج صيدح إلى أن يصف حياتهم
الأدبية بقوله: "في سائر المهاجر قد لا تصل عناية الشاعر بشعره حدّاً من
التجويد، وأحياناً لا يكلّف نفسه جهداً عقيماً، إذ لا يجد في السامعين مَن
يفهمه إذا أنشد الشعر الفنّي العالي، فيهبط إلى مستوى السامعين. أمّا في
سان باولو فعلى الخطيب أن يحسب حساباً للشعراء والكتّاب واللغويين
الملتفّين حول المنبر مرهفين السمع متحفّزين للانتقاد والتجريح". ¡
المصدر مجلو الضاد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق