ليبيا بعد سنة على التحرّر..
بعد مرور عام على الاعلان عن تحرير ليبيا من الإرث الثقيل لديكتاتورية معمّر القذّافي، سقطت ليبيا في ديكتاتورية الميليشيات والفوضى وسط عجز كامل للسلطة السياسية الانتقالية عن التعامل مع الواقع.
لم تكن الاشتباكات الأخيرة في بني وليد المثل الوحيد على استيقاظ عداوات قديمة مع مدينة مصراتة، وقبلها مقتل السفير الأميركي كريس ستيفنس وثلاثة ديبلوماسيين آخرين في مدينة بنغازي، على أيدي ميليشيات «أنصار الشريعة»، التي يعتقد المسؤولون الأميركيون أنه، ربما كانت مرتبطة بتنظيم «القاعدة»، فيما معاناة فوضى السلاح لم تعد مقتصرة على الداخل الليبي، وإنما بدأت الدول المجاورة تطلق تحذيرات من الانعكاسات التي قد يرتّبها استمرار تهريب السلاح الليبي الى الخارج. وكشف رئيس الوزراء المصري هشام قنديل خلال زيارته الجزائر أخيراً، أن مصر تعاني «معاناة شديدة» بسبب تهريب السلاح من ليبيا، على رغم التنسيق الأمني بين طرابلس والقاهرة والجزائر. وعلى رغم الشعور الطاغي بالسعادة على معظم الليبيين لتخلّصهم من ديكتاتورية القذّافي التي استمرّت اثنتين وأربعين سنة، فإنهم يخشون على المستقبل وينظرون الى الأيام القادمة بقلق، بسبب المعاناة اليومية التي يعيشونها نتيجة عدم استقرار الأمور، واستبداد الشكوك في قدرة المسؤولين القيّمين على العملية الانتقالية على التوصّل الى اتّفاق من شأنه تحقيق الأمن في أنحاء ليبيا.
وهذه الفوضى هي التي دفعت مثلاً برئيس المجلس المحلّي لمدينة بنغازي شحات العوامي الى الاستقالة، بسبب الضغوط اليومية المصحوبة بتهديدات مسلّحة ممّن يطلبون وظائف أو مساكن، إضافة الى عدم استجابة الحكومة المركزية في طرابلس لمطالبهم.
وحالة العوامي واحدة من حالات الاستياء العارم التي تنتشر في عموم ليبيا وليس في بنغازي فحسب، مهد الانتفاضة ضد القذّافي. ويقول بعض السكان إن ثقافة السلاح باتت منتشرة، ويتحدّثون عن حوادث خطف سيارات وأشخاص، وسطو مسلّح ونزاعات تؤدّي الى تبادل إطلاق النيران بين جماعات متناحرة.
وما جرى في بني وليد مثال آخر على انحسار سلطة الدولة لمصلحة سلطة الميليشيات؛ فالهجوم على المدينة التي كانت معقلاً لمؤيّدي القذّافي، تملك سجلاً حافلاً من النزاع مع مدينة مصراتة المجاورة، التي كانت رأس حربة في الثورة على القذّافي في الغرب الليبي، كما كانت بنغازي في الشرق. ولذلك، تسعى الميليشيات التابعة لمصراتة الى فرض نفوذها على بني وليد، بعدما وجدت أن الفرصة سانحة، وذلك بغطاء شرعي من الحكومة الانتقالية. والقصة بدأت في تموز (يوليو) الماضي، عندما تمكّن سكان من بني وليد من اعتقال عمر شعبان من مصراتة مع مجموعة أخرى من رفاقه. ومعلوم أن شعبان هو الشاب الذي اكتشف مخبأ القذّافي في أنبوب للصرف الصحّي بالقرب من بني وليد، بعدما كانت قافلته تعرّضت للقصف من طائرات حلف شمالي الأطلسي لدى فرارها من المدينة. وبقي شعبان يفاخر بأنه هو من اعتقل القذّافي، وصولاً الى عملية تصفيته في عشرين تشرين الأول (أكتوبر) من العام 2011 بعيد إلقاء القبض عليه. وأصيب شعبان بجروح لدى إلقاء القبض عليه في بني وليد، وبقي لمدة شهرين في أحد مستشفيات المدينة البدائية، قبل أن يصار الى تسليمه الى السلطات المركزية التي نقلته الى فرنسا للعلاج، لكنه توفّي لاحقاً متأثّراً بجروحه، الأمر الذي أغضب سكان مصراتة الذين كانوا يعتبرون شعبان رمزاً للثورة، فقرّروا إخضاع بني وليد وهذا ما كان لهم.
بيد أن السؤال المطروح هو: هل هذه هي طريقة سليمة للحكم في ليبيا وأين هو دور السلطات المركزية، التي لم تكن قادرة على إيجاد مخرج للأزمة في بني وليد يجنّب المدينة الحل العسكري. فانتقام مصراتة من بني وليد لن يوصل في النهاية إلا الى مزيد من العداوات بين المدينتين. ويؤكد أعضاء في المجلس المحلّي في بني وليد، أن المدينة كانت تحاول الاندماج في النظام الجديد من دون أن تتعرّض للاذلال من مصراتة، المتّهمة بأنها تحاول الهيمنة على مفاصل النظام. لكن آخرين ظلّوا ينظرون الى بني وليد على أساس أنها معقل لمقاومة النظام الحكومة الجديدة.
وليست الحال بين مصراتة وبني وليد التعبير الوحيد عن الفوضى، بل تكشف تقارير من المنظّمات الدولية غير الحكومية، عن ممارسات خطرة. وتحدّثت منظّمة «هيومن رايتس ووتش» الأميركية عن إقدام الميليشيات التي أطاحت القذّافي عن تصفية مئات المعتقلين من أنصار القذّافي من دون محاكمة بعيد سقوطه، مشيرة الى أن أحداً لم يحقّق في القضية.
وعلى رغم أن بعض الميليشيات قد عادت الى بلداتها أو اندمجت في قوّات الأمن، فإن غيرها لا يزال يتمتّع بالنفوذ. ولا يزال الكثير منها فنّيّاً ينتمي الى اللجنة الأمنيّة العليا التي أنشئت في أيلول (سبتمبر) العام الماضي، لمحاولة تنظيم الجماعات المسلّحة التي اعتبرت نفسها حامية للثورة الليبية. واعتبر الكثيرون أن اللجنة الأمنيّة هي بمثابة حلّ موقّت لتنظيم المسلّحين الذين ينظرون نظرة شك الى المؤسّسات الأمنيّة التي كانت قائمة في عهد القذّافي. ويعطي المسؤول في مجلس مدينة طرابلس سادات البدري، وصفاً للوضع القائم، فيقول في مقابلة صحافية مع وكالة أنباء أجنبية، إن الفساد وسوء إدارة المال العام استشريا، فيما تهافت الناس على الأسلحة والسيارات والمزايا التي تمنح لمن يفترض أنهم مقاتلو الصف الأول. ويضيف أنه في طرابلس بدأ الأمر بثلاثين ألفاً من الثوّار، والآن هناك مئة ألف. وتساءل من أين أتى هؤلاء، مشيراً الى أنه حتى النساء انضممن قائلين إنّهنّ كنّ يقمن بإعداد الطعام للمقاتلين، وتالياً يجب اعتبارهن من الثوّار وصرف رواتب لهنّ. ويحذّر من أن اللجنة الأمنيّة العليا باتت مصدر قلق أمني، إذ تهدّد بأن تطغى على وزارة الداخلية التي أنشأتها وتموّلها.
وإلى الاشتباكات شبه اليومية بين الميليشيات التي تتقاتل على المال والنفوذ، ولا ترى أن من مصلحتها قيام دولة قويّة مع قوى أمنيّة رسمية فاعلة، يهدّد الفلتان الأمني الوضع الاقتصادي، باعتبار أن ليبيا من البلدان المصدّرة للنفط، والتي تعتمد على الكثير من العمّال الأجانب، الذين بدأوا يخشون المجيء الى ليبيا خشية عدم ضمان سلامتهم، في حين أن رجال الأعمال الأجانب يتعيّـن عليهم الاستعانة بحرس خاص. وإذا ما أضيف الى ذلك وضع سياسي مقلق على مستوى القيادة نتيجة عدم النجاح حتى الآن في تأليف حكومة، بسبب المشاحنات التي تستبدّ بمسؤولي الصف الأول، فإن جوّاً من التشاؤم يكتنف المشهد الليبي عموماً. وقد شكّلت الضربة التي تلقّتها أميركا بمقتل سفيرها في بنغازي صدمة في واشنطن، لم ينجل الغموض الذي يكتنفها حتى الآن، وكأن المسؤولين الأميركيين لا يريدون أن يصدّقوا أن هذا حدث لهم في بلد ساعدوه على التخلّص من الطاغية الذي استبدّ بهم على مدى أكثر من أربعة عقود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق